اعتاد اللبنانيون أن ينتظروا خطابي الأمين العام لـ "​حزب الله​" ​السيد حسن نصرالله​ ليلة ويوم العاشر من محرّم في ذكرى ​عاشوراء​، كونهما يحملان رسائل سياسيّة من مجمل الملفات في الداخل والخارج، وموقف الحزب من التطورات والاستحقاقات المُنتظرة.

إلا أنّ اللبنانيين اعتادوا أيضاً على أنّ يُستتبَع الخطابان بـ"عاصفة" من الردود الداخلية، من خصوم الحزب، وهو ما لم يُرصَد بوضوح هذا العام، إذ أوحت المعطيات أنّ الردود اقتصرت على ال​إسرائيل​يين، على خلفية "التصعيد" الذي تضمّنه الخطاب إزاءهم، في إطار "الحرب النفسية" المتبادلة بين الجانبين منذ سنوات.

فكيف قرأ الداخل اللبناني، بمختلف تشعّباته، خطابي نصر الله؟ وهل صحيحٌ أنّ مواقفه قوبِلت بالارتياح؟ وأيّ معانٍ أو تفسيرات يمكن أن يحملها ذلك على الوضع العام؟.

التهدئة أولاً

في البداية، يمكن القول إنّ خطابي نصرالله في ليلة ويوم العاشر من محرّم، لم يحملا أيّ موقفٍ "نافرٍ" في الداخل، بما يمكن أن "يستفزّ" أو "يغيظ" القوى والأحزاب السياسية المعارضة له، علماً أنّ نصرالله الذي بدا "متشائماً" ولكن "وبواقعية" حيال تأليف الحكومة الجديدة، وجّه رسائل إيجابيّة لجهة ضرورة عدم إلغاء أو شطب أحدٍ من المعادلة. وفي هذا السياق بالتحديد، أتت دعوته إلى الحفاظ على جو الحوار والهدوء، بعيداً عن جو التشنج الذي اعتبره "الحاكم في لبنان حالياً"، بالإضافة إلى ضبط الأعصاب، ومعالجة أي مشكلة من خلال الحوار والتواصل والحكمة، خصوصاً أنّه حرص على عدم الدخول في تفاصيل الخلافات الحكومية، ولم يدخل على خط أيّ من السجالات الدائرة اليوم بين الأفرقاء حول الحصص والصلاحيات وما إلى هنالك.

ولعلّ "المفارقة" في كلام نصر الله أنّ "​النأي بالنفس​" من صراعات الداخل، انعكس بطريقةٍ أو بأخرى حتى على طريقة تعاطيه مع صراعات الإقليم، رغم مواقفه "المبدئية" المعروفة من الكثير من هذه الصراعات، والتي تجلّت في خطابه، لكن من دون "تصعيد" في اللهجة. فعلى الرغم من بعض الانتقادات التي وجّهها إلى المملكة العربيّة السعوديّة في إطار مقاربته للحرب اليمنيّة والمشاريع الأميركيّة الإسرائيليّة في العراق وسوريا، وعلى الرغم من تأكيده الوقوف إلى جانب الشعب البحريني "الذي يعاني من مظلوميّة"، إلا أنّه لم يصعّد بشكلٍ واسع ضدّ ​دول الخليج​، على غرار ما كان يحصل عند إطلاق شعار "الموت ل​آل سعود​" في بعض المسيرات العاشورائيّة سابقاً إسوة بـ"الموت ل​أميركا​ وإسرائيل". وأكثر من ذلك، ذهب البعض لإعطاء أبعاد وتفسيرات إيجابية لسؤال نصرالله عمّا كان يمكن أن يحصل في دول الخليج لو أنّ "داعش" سيطرت على العراق.

انطلاقاً من كلّ ما سبق، يبدو واضحاً من خطابي نصرالله والردود "المتواضعة" عليه في الداخل بأنّ تغليب سياسة التهدئة أولاً بات هو السائد على الساحة الداخلية، على الرغم من التحفظات الكثيرة التي لدى الكثير من الفرقاء على العديد من المسائل. وثمّة من يقول إنّ اللبنانيين اقتنعوا بأنّ هذه "التهدئة" هي شرط أساسيّ للتفاهم، ومن دونها فإنّ لا الحكومة ستتشكّل ولا الوضع سيُضبَط، ولا شكّ أنّ أبرز تجليات هذه "القناعة" تتمظهر في "التهدئة المُعلنة" بين "​التيار الوطني الحر​" و"​الحزب التقدمي الاشتراكي​"، بعدما كادت الأمور تفلت بينهما، ما قد يشكّل "مفتاحاً للحلّ" على غير صعيد، إذا ما عرف المعنيّون كيف يتلقّفون الكرة بطبيعة الحال.

نأيٌ بالنفس؟

عموماً، لا شكّ أنّ التزام معظم الفرقاء بالتهدئة، وعدم تحويل خطابي نصر الله إلى مادة سجال كما درجت العادة، لا يعني الارتياح المُطلَق إلى ما تضمّنه الخطابان، خصوصاً الأول الذي أعاد برأي البعض إثارة إشكالية النأي بالنفس، لا سيما مع إعلان نصر الله بقاء قواته في سوريا "طالما القيادة السوريّة" تريد ذلك، بل قوله إنه "طالما القيادة في سوريا تقول لكم حاجة وأنا أرغب ببقائكم، نحن باقون".

وإذا كان نصرالله نفسه أقرّ في خطابه بأنّ "النأي بالنفس هو موضوع خلاف جدي في لبنان"، باعتبار أنّ"ما يجري في المنطقة هو بالنسبة للشعب اللبناني مصيري"، اعتبر كثيرون أنّ كلامه يكرّس التدخل اللبناني في الحرب السوريّة، فضلاً عن كونه يحوّل حزباً لبنانياً إلى "منفّذٍ" بالحدّ الأدنى لتعليمات نظامٍ خارجيّ، سواء كان "شقيقاً" أو غير ذلك، إن لم يكن "تابعاً" له، علماً أنّ كثيرين كانوا يمنّون النفس بإعلان "حزب الله" الانسحاب من سوريا، خصوصاً بعد التوصل إلى "اتفاق إدلب" بين الروس والأتراك، واستبعاد المعركة العسكرية فيها، التي كان ​النظام السوري​ يروّج أنّها "الأخيرة" في الحرب السوريّة.

لكن، في مقابل هذا التحفّظ في سياق الحرب، يمكن تسجيل إخراج معادلة الصراع مع إسرائيل من خانة النأي بالنفس، مع عدم صدور مواقف "نافرة" يُعتَدّ بها على خلفية تصعيد الأمين العام لحزب الله ضدّ الإسرائيليين، بخلاف المواقف السلبية التي كانت تُطرَح كلما هدّدهم، حتى أنّ قياديين في "​تيار المستقبل​" مثلاً أعلنوا جهاراً أنّ "لا نأي بالنفس مع العدو الإسرائيلي"، ولم يخرج من يتحدّث عن "مصادرة قرار الحرب والسلم" وغير ذلك. ويكفي بالنسبة لمؤيدي نصر الله، التمعّن في ردّ رئيس الوزراء الإسرائيلي ​بنيامين نتانياهو​، الذي هدّد بالردّ "في حال الاعتداء علينا" في مفارقةٍ واضحة تنطوي على انقلابٍ في الأدوار، ما يؤكد أنّ سياسة "الردع" التي ينتهجها الحزب أثمرت، وهو ما يفترض أن يطمئن اللبنانيين ويبدّد هواجسهم، لا أن يوقظها أكثر.

إرادة سياسيّة

لا يمكن القول إنّ خطابي نصر الله كانا "حياديَّين" بالمُطلَق إزاء الداخل والخارج، وأنّ عدم تحوّلهما إلى مادة سجال إضافي يلتهي بها اللبنانيون فيما ينتظرون تشكيل حكومة لا يبدو قريباً، يعني وجود توافق على كلّ ما تضمّناه.

أكثر من ذلك، قد يقول قائل إنّ جملة "البقاء في سوريا" وحدها كانت كفيلة في ظروفٍ أخرى، بإشعال "عاصفة" من الردود، فضلاً عن الكثير من العبارات عن الحرب اليمنية، ومشاريع أميركيّة إسرائيليّة سعوديّة، ودور المملكة في "مؤامرة ​تنظيم داعش​"، وغير ذلك.

الأمر بكلّ بساطة مرتبطٌ بإرادة سياسيّة متّفَق عليها بالذهاب إلى التهدئة، الّتي لا بدّ منها لمعالجة ذيول الخلافات الناشئة عن عدم تأليف الحكومة، وتهدئة لن تتألف الحكومة من دونها ولو بعد أشهر طويلة، وإن كان الخوف من خرقها في أيّ لحظة أكثر من مبرَّر...