لا أحدَ يريد عزلَ الرئيس ​سعد الحريري​ وإبعادَه عن رئاسة الحكومة المقبلة، فهو اليوم حاجةٌ لـ»حزب الله» وحلفائه. ولا أحدَ يستطيع عزلَ النائب السابق ​وليد جنبلاط​، وهو الممثّل الأول للدروز. ولكن، ثمّة مَن بدأ محاولةً جديدة لوضع الدكتور ​سمير جعجع​ بين خيارين: إما الدخول ضعيفاً في الحكومة وإما البقاء خارج اللعبة!

ملامح عزل «القوات» أو إضعافها بدأت قبل ​الانتخابات النيابية​، بعدما بلغ التوتّر أقصى حدوده بين وزرائها ووزراء «التيار الوطني الحرّ» حول الملفات الساخنة. وفي الانتخابات النيابية، وجد «التيار» وقوى أخرى أنّ هناك فرصةً سانحةً لترجمة هذه الرغبة.

لذلك، كان لافتاً أن تكون «القوات» وحيدةً في المعركة الانتخابية الأخيرة. فقد اشترط «التيار الوطني الحر» على الحريري أن يحصر تحالفاتِه المسيحية به وحده، في الانتخابات، إذا كان يريد أن يتشارك الحكمَ مع الرئيس عون ويترأس الحكومة المقبلة: هذه مقابل تلك!

طبعاً، لم يأخذ الحريري من وقته، ولو دقيقة واحدة، للتفكير في العرض، فأعلن الموافقة. وأساساً، لم يكن أمامه سوى الانسحاب والانكفاء مجدداً، لو تخلّى عن تسوية 2016 التي عقدها مع الرئيس ​ميشال عون​، بموافقة «حزب الله».

وهكذا، كان خيارُ الحريري في الانتخابات، أن يتحالفَ مسيحياً مع «التيار». وهو ساهم في شكل فاعل في فوز كوادر قياديّين لـ»التيار» بالمقاعد النيابية، في غير منطقة لطالما اعتُبِرت صعبةً عليهم.

وأما «القوات» فأبقى الحريري تحالفَه معها موضعياً وفي «الحالات الاضطرارية». وقد أراد منها هدفين:

1 - تحقيق فوز مرشحيه حيث طبيعة المعركة تقتضي ذلك.

2 - إظهار مقدار من التجاوب مع القوى العربية والدولية التي نصحته بالتعاون انتخابياً مع قوى ​14 آذار​، للحدّ من سيطرة «حزب الله» على المجلس النيابي.

ولكن، يجدر الإيضاح، وبمعزل عن الضغوط التي مورست على الحريري لمنع تحالفه مع «القوات» في الانتخابات، أنّ العديد من الذين أداروا حملة «المستقبل» لم يكونوا متحمّسين أساساً للتعاون مع «القوات».

وحتى في دائرة صيدا- جزين، حيث فشل «المستقبل» في التحالف مع «التيار»، فضّلت النائبة ​بهية الحريري​ البحث عن تحالفات خارج «القوات» و​الكتائب​، وأبلغت المناصرين أنّ الناس في صيدا يرفضون التحالف مع «القوات» لأنهم لم ينسوا مواقفها خلال الحرب!

وفي أيّ حال، كان عهدُ الصفاء الكلّي بين «المستقبل» و»القوات» قد انتهى قبل ذلك، عندما اضطرّ الحريري إلى التخلّي عن جعجع كمرشح للرئاسة، وأعلن دعمَ النائب السابق ​سليمان فرنجية​، ثمّ عون. وحينذاك، وجد جعجع نفسَه في مواجهة العزلة، فالتحق بالتسوية المعقودة بين عون والحريري، من خلال إبرامه «تفاهم معراب» مع عون.

وهذا الالتحاق «القواتي» المصطنع بالتسوية كان يقابله قبولٌ «عوني» مصطنع بدورٍ وازنٍ لـ»القوات». وعندما التقى الطرفان إلى طاولة مجلس الوزراء، تضاربت المصالح وسقط المصطنع وانكشفت الحقائق.

وكاد جعجع يتعرض للعزل في مجلس الوزراء لولا رغبة بعض الأقوياء في ​8 آذار​، ولا سيما الرئيس ​نبيه بري​، في استمرار وجود توازن معيّن بين القوى المسيحية. فلا أحدَ له مصلحة في إطلاق يد «التيار» وحده مسيحياً لأنه سيصبح، ورئيس الجمهورية، في موقع «غير القابل للضبط».

في بعض أوساط «القوات» يُقال: نحن نعرف أنّ كثيرين يريدون رأس «القوات» لأنها تعوق مشاريع سيطرتهم على البلد. وهذه السيطرة قد تكون ذات طابع فئوي أو شخصي. وفي الحالين، نحن نقاتل في مجلس الوزراء ضد هذه السيطرة وسنشكّل إزعاجاً دائماً لأصحابها.

والذين صمدوا في وجه السيطرة السورية على البلد سيصمدون في وجه كل سيطرة أخرى. واليوم، بات حضورُ «القوات» في المجلس النيابي أقوى من أيِّ وقت مضى. ولا بدّ من ترجمته في الحكومة أيضاً. ولن تنجح محاولات إضعافنا أو إحراجنا لإخراجنا.

إلّا أنّ البعض، في أوساط أخرى قريبة من «القوات»، لا يخفون قلقهم، ويقولون: ليس مستبعداً أن يحصل تواطؤٌ مصلحي، في لحظة معينة، وأن يَضعف حلفاؤنا بعد أن يتمّ إرضاؤهم بما يريدونه في الحكومة المقبلة، مقابل أن يتخلّوا عن «القوات».

ويقدّم هؤلاء بعض البراهين: لقد اعتمد الحريري منطق «الواقعية السياسية» في كل المحطات الأساسية، على مدى العامين الفائتين، واعتمد الخيارات الآتية:

- التخلّي عن جعجع كمرشح للرئاسة.

- الوقوف إلى جانب وزراء «التيار» في خلافهم مع وزراء «القوات» داخل مجلس الوزراء.

- الاختلاف مع «القوات» حول ملف الاستقالة في تشرين الثاني.

- عدم التحالف مع «القوات» في الانتخابات الأخيرة.

وفي تقدير هؤلاء أيضاً أنّ الطرف المسيحي الذي حجز موقعاً له مع «التحالف الرباعي» (بري و»حزب الله» والحريري وجنبلاط)، في تسوية 2016، هو عون و»التيار»، وأما «القوات» فلم تدخل نهجَ التسوية عملياً بل بقيت على هامشها. والدليل هو موقفها الاعتراضي، سواء في السياسة أو في طريقة إدارة الملفات الأخرى.

ويرى هؤلاء أنّ بعض الذين يتحالفون اليوم مع «القوات»، في ملف الحكومة المقبلة، إنما يفعلون ذلك بناءً على رغبة قوى عربية ودولية لمنع إعطاء «حزب الله» القرارَ الوازن في هذه الحكومة، بعدما استأثر بالقرار- هو وحلفاؤه- في المجلس النيابي الحالي.

وهذا الحلف قد يَضعف ويتشتّت أركانُه إذا جاءت «كلمة السرّ» الخارجية أو إذا سمحت بعض المصالح الداخلية بذلك. وعندئذٍ، سيكون المرشح الأول لدفع الثمن هو «القوات»، لأنّ الحريري وجنبلاط محميّان بتسويةٍ ما زالت تُشكّل مصلحةً لقوى 8 آذار.

وتدرك «القوات»، على المستوى القيادي، أن لا صداقات دائمة في السياسة ولا تحالفات، بل مصالح. وهي اكتشفت أنّ التطورات اللبنانية، منذ 2005، حملت انقلابات سريعة ومفاجئة في المواقف والمواقع في غالب الأحيان.

ولكن، في المقابل، هي تراهن على أنّ التوازنات اللبنانية لا تسمح في هذه الظروف بعزل أحد. والمثير أنّ «القوات» حظيت في مجلس الوزراء بدعم قوى من 8 آذار، ولاسيما بري. وحتى «حزب الله» وقف معها في بعض الملفات، كتلك المتعلّقة بمواجهة الفساد. وأما علاقاتها مع «المردة» فقد تحسّنت.

ولذلك، ربما تطمئنّ «القوات» إلى أنّ مجموعة من التقاطعات المصلحية، بين الخصوم والحلفاء، تشكّل لها الحماية لمنع إضعافها أو عزلها.

ومن هذا المنطلق، يقوم نهجُ «القوات» في هذه المرحلة على مدّ الجسور مع الجميع والإكثار من الأصدقاء، بحيث يشعر كل طرف بأنه يلتقي معها حول ملف أو مسألة على الأقل. وهذا الأمر يشمل القوى الأساسية في 8 آذار جميعاً.

هل هذا يعني أنّ «القوات» مستعدّة للانفتاح سياسياً، على الثنائي الشيعي تحديداً، من أجل حماية حضورها؟

يقول العارفون: مع الرئيس بري، لا مشكلة لـ»القوات» في الانفتاح. فالرجل يلتقي عنده الجميع. ولكن، مع «حزب الله»، «القوات» تتأنّى بدراسة الانفتاح، ولو اعتادت الإعلان عن استعدادها للذهاب إلى «حيث لا يجرؤ الآخرون»!