منذ سنوات، تُطرح الكثير من المشاريع لمعالجة أزمة السير في ​لبنان​، من دون أن يلمس المواطن أي تحسن على هذا الصعيد، لا بل هي تتفاقم يوماً بعد آخر بما تحمله من تداعيات، لا سيما على المستوى الإقتصادي.

أغلب الذين يدخلون إلى العاصمة ​بيروت​، أو يخرجون منها، يعانون من هذا الواقع، سواء كانوا يسلكون المسلك الشرقي أو الجنوبي أو الشمالي، في حين تبدو مفارز السير في ​قوى الأمن​ عاجزة عن الحدّ من هذه الأزمة.

في هذا السياق، يؤكد أحد الخبراء المطلعين على هذا الملف، عبر "النشرة"، أن الأزمة الأساس تكمن في غياب أي أرقام أو دراسات حقيقيّة يمكن البناء عليها، لكنه يشير إلى أن التوقعات تتحدث عن دخول ما يقارب 400 ألف مركبة يومياً إلى بيروت عبر مداخلها الثلاث الرئيسية.

ويشير هذا الخبير إلى أن "من الممكن تعداد ما يقارب 15 عاملاً مؤثراً في هذه الأزمة، لكن أحد لا يملك القدرة على تحديد نسبة تأثير كل منها". ويلفت إلى غياب ​النقل العام​ وعدم إستيراد السيارات الخاصة حسب الحاجة، بالإضافة إلى مخالفات الوقوف في الطرقات العامة وإعطاء رخص بناء لمجموعات تجارية من دون دراسة تأثير وجودها في مكان بنائها على ​حركة السير​.

على الرغم من ذلك يجزم الخبير نفسه أن المشكلة الأساس تكمن في غياب هيئة قياديّة تتولى إدارة هذا الملف، لناحية الدراسة والتخطيط والتنفيذ، حيث أن لكل جهة معنيّة سياسة خاصة، بظل غياب تام للتنسيق.

في الإطار نفسه، يوضح الخبير الإقتصادي غازي وزني، في حديث لـ"النشرة"، أن الدراسات تشير إلى أن تكلفة أزمة السير في لبنان تصل إلى نحو ملياري دولار في العام الواحد، مشيراً إلى أن المليار الأول يأتي من تداعيات مباشرة مثل إستهلاك الطرقات وتراجع الإستثمارات، بالإضافة إلى ​البنزين​ الذي يدفعه المواطن خلال حالات الإزدحام والتأخر في الوصول إلى العمل، بينما المليار الثاني يأتي من تداعيات غير مباشرة، تتعلق بتأثيرها على مختلف القطاعات الإقتصادية في البلاد.

ويشدد وزني على أهمية الإستثمار في هذا القطاع، لا سيما أن ​الحكومة اللبنانية​ لم تقم، منذ سنوات، بأي إستثمار جدي على هذا الصعيد، لافتاً إلى أنه اليوم هناك ما يقارب مليون و600 ألف مركبة، يضاف إليها مع حركة ​النزوح السوري​ ما بين 100 و120 ألف مركبة، بينما يدخل السوق المحلي نحو 120 ألف مركبة جديدة سنوياً، ويضيف: "تنظيم عدد المركبات أمر مهم، وأهم معالجة لأزمة السير تكمن في تفعيل النقل المشترك".

من جانبه، يرى مدير الأكاديمية اللبنانية الدولية للسلامة المرورية ​كامل إبراهيم​، في حديث لـ"النشرة"، أن غياب الحلول يعود إلى غياب الخطط، موضحاً أن ملف السير لم يعالج في أي مرة عبر خطة هادفة ومستدامة.

ويلفت إبراهيم إلى أن الإستثمار في هذا القطاع يحتاج إلى إنفاق الكثير من الأموال، في حين أن اللبنانيين إعتادوا على إستخدام السيارات الخاصة بسبب غياب النقل العام المنظم. يوضح ابراهيم أن المعالجة لا يمكن أن تكون ضمن خطة واحدة، حيث المطلوب أن يكون هناك حلولاً على المدى القريب وأخرى على المديين المتوسط والبعيد، الأمر الذي يتطلب وجود إرادة سياسية، معتبراً أن الشركات الخاصة من الممكن أن تساعد في هذا المجال، لا سيما إذا كان عدد الموظفين لديها كبيرا.

حتى اليوم، تبرز العديد من الخطط المتناقضة على مستوى معالجة أزمة السير في لبنان، حيث يتم الحديث عن تنفيذ مشاريع طرق سريعة وتوسعة تلك القائمة بعد تأهيلها، مقابل إطلاق شبكة خاصة للباصات السريعة، أي أن الدولة تريد، من جهة، تشجيع المواطنين على إستخدام وسائل النقل المشتركة، ومن جهة أخرى تسهيل مهمة إستخدام السيارات الخاصة.

في "برنامج الاستثمارات العامة"، الذي عرضته الحكومة، أمام الدائنين والمستثمرين في مؤتمر "سيدر"، تم الحديث بشكل مباشر عن مشروع الباصات السريعة، الذي يتطلب تصميم محطات وبنائها وشراء 120 حافلة لخدمة 40 كيلومتراً من المسارات المخصّصة للنقل، من الضواحي الشمالية إلى قلب مدينة بيروت الكبرى، فضلاً عن عمل 250 حافلة على الطرق الفرعية بين المحطات الرئيسية والمناطق النائية، على أنْ يتولى ​القطاع الخاص​ تمويل كل عمليات شراء هذه الشبكة وبناءها، فضلاً عن تشغيلها وصيانتها.

يشير مهندس النقل اللبناني رامي سمعان، في حديث لـ"النشرة"، إلى أنه على مستوى المدن هناك ضعف النقل المشترك والوسائل البديلة الأخرى، بينما على مستوى نقل البضائع يصبح الضعف في النقل المكثف، مثل سكك الحديد، مؤكداً أن التداعيات ستبقى موجودة في حال عدم مواجهة هاتين المشكلتين.

ويؤكد سمعان ألاّ مشكلة في توسعة الطرقات مع إستخدام وسائل النقل المشترك، حيث يشدد على أن الأساس هو الهدف من وراء هذا الخيار، هل هو لخلق خدمة نقل مشترك مناسبة أم لإستخدام السيارات الخاصة أو وسائل النقل العام التي تشبه الخاصة، مثل الفانات والباصات الصغيرة؟.

من وجهة نظر سمعان، لا يمكن الحديث عن عوامل خارجية على هذا الصعيد، بل عن خيارات خاطئة، حيث لا إرادة لإنشاء أجهزة دولة مستدامة وقوية، معتبراً أنه عند إنتهاء الحرب كانت هناك الكثير من الفرص، لكن ما كان يصلح حينها لم يعد قابلاً للتنفيذ اليوم، ويضيف: "الإستدامة لا تأتي من فراغ، يجب البدء من مكان ما، حتى لو كان ذلك بالإعتماد على الفانات، لكن منح الرخص لا يجب أن يكون من دون القدرة على تحديد التعرفة والمسارات وأماكن التوقف"، مشدداً على أن الحق ليس على الطرقات بل على وظيفتها، حيث أن الطريق نفسه عند تغير وظيفته لن يعطي النتيجة نفسها.

على المستوى الرسمي، يؤكد رئيس ​لجنة الأشغال العامة​ والنقل ​نزيه نجم​، في حديث لـ"النشرة"، أن هناك خطة سير لكن العبرة في التنفيذ، مشيراً إلى أن مشكلة لبنان الأساسية تكمن بعدم تطبيق القوانين.

وفي حين يشدد نجم على أنه لمعالجة أزمة السير يجب تنفيذ القوانين لا أكثر ولا أقل، يتحدث عن مشكلة الأشغال التي تأخذ الكثير من الوقت، بسبب الطريقة التي تتم بها عمليّات التلزيم، مؤكداً أن اللجنة ستعمل على هذا الملف، لكن قبل ذلك لديها أكثر من ملف، فهي عملت على ملفّ المطار ثم الليطاني، بينما الثالث أمامها هو تحصيل ​الأملاك البحرية​، الذي يصل إلى 800 مليون دولار، وبعد ذلك هناك ملفي ​الكهرباء​ والغاز، بينما لا يمكن إنهاء أكثر من ملف في وقت واحد.

ولدى سؤال رئيس لجنة الأشغال العامة والنقل عن حلول سريعة يمكن القيام بها، يعود إلى التشديد على أهمية تطبيق القوانين، بالإضافة إلى تكليف عدد أكبر من عناصر شرطة السير في التنظيم، داعياً الوزراء والنواب أيضاً إلى عدم إقفال الطرقات عند مرورهم عليها.