تاريخياً إعتادت ​أوكرانيا​ على تبدلات المشهد السياسي. من المملكة فوهلونيا غاليسيا، الى القوزاق الهتمان، الى حضن القيصرية الروسية، ثم خارجها، الى حضن ​الاتحاد السوفياتي​، وصولا إلى الاندماج بالاتحاد الروسي، فالخروج منه. وفي كل مرحلة كانت الانتفاضات هي المسار، الذي يعتمده انصار "القومية الأوكرانية" بمواجهة المناصرين للروس. لكن أتى الانفصال عن ​موسكو​ منذ أربع سنوات، فتمّ كسر السياسيين الذين تعتمد عليهم موسكو، بعد الإطاحة بحليفها الرئيس فيكتور ياتوكوفيتس. جاءت ازمة ​القرم​، بضمها الى ​روسيا​، انطلاقا من وقائع تاريخية، وسعي الأكثرية في القرم التي تنتمي الى القومية الروسية للبقاء مع موسكو، لا تحت النفوذ الاوروبي والاميركي غير المباشر الذي دفع بالقومية الاوكرانية الى الانتعاش من جديد، والانتفاض في كييف، وتحقيق الابتعاد عن الروس، وتصوير روسيا بأنها احتلال لأوكرانيا.

الآن، يمكن التجول في العاصمة الأوكرانية التي يعيش فيها خمسة ملايين نسمة، من اصل ٤٥ مليون أوكراني تقريبا، في بلد يتراجع فيه عدد السكان، لأسباب عدة، أهمها انخفاض ​الزواج​، و​الهجرة​، وتفوق العدد الانثوي بأضعاف عدّة على أعداد الذكور. لكن الشكل الظاهر في كييف، سياحياً وثقافياً، حيث يعج اضخم شارع في كييف بالأوكرانيين، فلا يعكس المشهد عمق الازمات التي تعاني منها البلاد. ​الفساد​ يتغلغل، كما توحي منظمات دولية اوروبية، حاولت تسويق إصلاحات، لكنها لم تنجح. كانت المعارضة السابقة، قبل فرض التموضع الاوكراني الجديد عام 2014، ترمي كرة المسؤولية على روسيا وحلفائها، ليتبيّن ان الفساد مسؤولية اوكرانية صافية، بدليل الشكاوى المؤسساتية الاوروبية، التي تمنع كييف من الانضمام الى ​الاتحاد الاوروبي​، فيما المطلوب تطبيق شروط إصلاحية تعجز كييف عن تنفيذها.

تلك المعوقات، وعدم تطبيق اصلاحات، أحبط المراهنين على "القومية الأوكرانية" ضد "القومية الروسية"، ليعود الرهان على مرشحين للانتخابات الرئاسية قريبين من موسكو. هذا ما تظهره استطلاعات الرأي، بعد سقوط الاعتقاد ان "التخلي عن موسكو والتقرّب من الدول الأوروبية و​الولايات المتحدة الأميركية​، سيضع الاوكرانيين في مساحة الارتياح الاقتصادي". رغم أن مقومات ​الزراعة​ و​الصناعة​ متوافرة في ​اوكرانيا​، على أرض شاسعة، في تلك البقعة من ​اوروبا​ الشرقية. لم يتغير ​الوضع الاقتصادي​، ولم يرتح المواطنون. تحاول السلطات الجديدة ان تقنع الرأي العام الاوكراني بأن "دور روسيا" هو الذي يعيق تقدمهم. لكن المواطنين الاوكرانيين المشحونين بخطاب القومية الأوكرانية، يعيشون واقعاً داخلياً ليس مريحاً. سقطت الضوابط الروسيّة، السوفياتيّة، التي طبعت ​الحياة​ في البلاد لفترات طويلة، لكن سقوطها ليس كافياً لحياة أفضل.

لم تترك كييف تعاطفاً مع روسيا يمرّ بسلام. حاربت المتعاطفين مع موسكو، وقاطعت الدول التي تتبنى الموقف الروسي إزاء أوكرانيا، ومنعت الفن الروسي، والثقافة، واللغة الروسية. ولم تسمح بإستحضار الأمجاد السابقة، لصالح قومية اوكرانيّة، بدت متشددة جدا في اظهار استقلاليتها عن الروس. يبدو دور الأميركيين رئيساً في التحشيد، لقطع اليد الروسية داخل أوكرانيا. نجحت ​واشنطن​ على رهاناتها الأوكرانية.

واذا كان الأميركيون خططوا، ودعموا، ودفعوا بإتجاه تحقيق ​الطلاق​ الأوكراني مع الروس، فنجحوا في فرض التباعد، لكن الاوروبيين تائهون: ماذا يفعلون؟ لديهم ملاحظات عدة الآن على كييف التي يمنعونها من الدخول الى الاتحاد الاوروبي، وهي جزء من ​أوروبا​ الشرقيّة. لم يستطع الأوكرانيون أن يمتثلوا للمتطلّبات الاوروبية. الاختلاف بينهما في الممارسة السياسية، وعدم الانسجام في مقاربة طرق الحكم، ولا القدرة على التطبيق الأوكراني للاصلاح. رغم أن اوكرانيا بلد زراعي وإنتاجي بمساحات شاسعة، ويملك قدرات هائلة، لم يستطع الأوكرانيون إستثمارها على أكمل وجه.

بعد اربع سنوات على الحُكم الجديد، هل حنّ الأوكرانيون الى زمن الرعاية الروسية؟ سؤال لا يمكن أن تجدَ له جواباً شافياً الآن، لأن الشيطنة الإعلامية لموسكو سرت في السنوات الماضية، وغسلت عقول اوكرانيين متعاطفين معها، أو محايدين. في الشارع تسمع المواطنون قلقين من المستقبل، بفعل أزمات متلاحقة على مساحة الدول المحيطة بهم، وعدم قدرتهم على خلق فرص استثمار واسعة. رغم ان انصار القومية الاوكرانية، يمجّدون مرحلة ما بعد الروس. لكن نتائج استطلاعات الرأي الشعبية تعطي الفوز في ​الانتخابات الرئاسية​ لمرشحة تصنّف في خانة الأصدقاء لموسكو، لا الأعداء معها. علماً أن كييف حسّاسة جداً مع الدول التي تقيم علاقات مع القرم(النفوذ الروسي)، الى حد إستدعاء سفراء تلك الدول، والاحتجاج لديها على تصرف ما، أو زيارة وفد رسمي اليها.

ماذا عن ال​لبنان​يين؟ يبلغ عدد أفراد الجالية اللبنانية اكثر من ٥٠٠ شخص، واكثر من ١٥٠٠ طالب جامعي، بإختصاصات عدة. يقوم سفير لبنان علي ضاهر بدور اساسي في تعزيز دور اللبنانيين في كييف. هو سفير نشيط، وقريب من الجالية، وليس بعيداَ عنها. يتابع شؤونا يومية، ويسعى الى زيادة عدد ​الصادرات​ اللبنانية الى كييف، بعد رصد الميزان التجاري المختل بين البلدين: اكثر من ٦٥٠ مليون ​دولار​ لكييف، مقابل اقل من ٦٠ مليون دولار للبنان. المسؤولية يتحملها اللبنانيون، الذين يحتاجون الى تطبيق المعايير الدولية في الانتاج، على كل صعيد زراعي وصناعي. لم تتوفر المواصفات المطلوبة في الانتاج اللبناني، كما يقول المعنيون، فيتم اللجوء الى دول أخرى. هنا تبدو المصلحة الاوروبيّة في جعل اوكرانيا سوق استهلاك للبضاعة الفرنسية، والبريطانية، والالمانية، والايطالية. لكن اللبنانيين يطالبون بمزيد من التصدير الى اوكرانيا، البلد الذي يدخل مواطنوه الى لبنان من دون تأشيرات مسبقة، بل يحتاج الدخول فقط الى تأشيرة في مطار ​بيروت​ الدولي، بينما يبقى بعض اللبنانيين ساعات طويلة عالقين في دوامة الانتظار في مطار كييف. لا بل ابقت السلطات الأوكرانية مواطنين لبنانيين اربعة ايام في مطارها، بعدما منعت دخولهما نهار الجمعة الماضي، ولم يتم السماح لهما، رغم تدخل ​السفارة اللبنانية​، الاّ بالعودة الى بيروت في الطائرة نفسها التي تعود كل ثلاثاء من كييف. حجة السلطات الاوكرانية ان العرب يستحصلون على تأشيرات سياحيّة اوكرانية للوصول الى كييف ثم الانتقال تهريبا الى عواصم اوروبية، عبر الحدود البرّية. لكن التصرّف الحاد مع لبنانيين في مطار كييف، من خلال التحقيق معهم وتجميد دخولهم لساعات، كما حصل مع احد اللبنانيين الذين يملكون ​جواز سفر​ اوسترالي، فتمّ تأخير دخوله اربع ساعات في المطار، فقط لأنه لبناني، يتطلّب المتابعة. هنا يثور اللبنانيون على دولتهم، لا على السلطات الأوكرانية، نتيجة عدم احترام عواصم عدة اللبنانيين، والاستخفاف بهم. يرفع اللبنانيون الصوت لتدخل الدولة في فرض تصحيح الخلل في الميزان التجاري اولا بين البلدين، والتصرف ازاء الاستخفاف الأوكراني باللبنانيين على المطار ثانيا، خصوصا ان اعداد الاوكرانيات اللواتي يدخلن بيروت، يفوق اعداد اللبنانيين بعشرات الاضعاف الذين يدخلون كييف.