"فلتكن حكومة أكثرية إذا لم نتمكّن من تأليف حكومة ائتلافية، ومن لا يريد المشاركة فليخرج منها". بهذه العبارات، حاول رئيس الجمهورية ​ميشال عون​ فتح كوّة جديدة في مسار تأليف الحكومة، بعد "جمود" طبع الملفّ خلال الفترة الأخيرة، في ضوء عدم تحقيق أيّ تقدّم جدّي، بعيداً عمّا حُكي عن "مرونة" لم تتخطّ طابعها الشكليّ هنا وهناك.

ليست المرّة الأولى التي "يبادر" فيها عون على الخط الحكوميّ، لكنّه أراد مع انقضاء شهر أيلول الذي سبق أن حدّده "فاصلاً" في تشكيل الحكومة، أن يقول للمعنيّين بالتأليف إنّ الأمور لم تعد مقبولة، وإنّهم يجب أن يتصرّفوا، تحت طائلة الذهاب إلى طروحاتٍ سبق أن وضعها قريبون منه على الطاولة، من دون أن يتبنّاها على المستوى الشخصيّ.

وإذا كانت "مبادرة" عون الجديدة فعلت فعلها بتنشيط الاتصالات السياسيّة خلال الأيام الماضية بين مختلف الفرقاء، ولو بقي معظمها بعيداً عن الأضواء، فإنّ السؤال الذي يطرح نفسه، هل تعدّل الظروف من الموقف من "حكومة الأكثرية"؟ وأيّ "بديلٍ" سيكون مُتاحاً، في حال رُفِضت من جديد؟.

"فيتو ثلاثي"

رغم دخول التكليف شهره الخامس، لا توحي الوقائع بأيّ متغيّرات في الواقع الحكوميّ، بل إنّ طرح "حكومة الأكثرية"، أو "الحكومة بمن حضر" كما يفضّل البعض تسميتها، لا يزال يصطدم بـ"فيتو ثلاثي" يجمع كلاً من رئيس الحكومة المكلف ​سعد الحريري​ وحزبي "​القوات اللبنانية​" و"​الحزب التقدمي الاشتراكي​"، علماً أنّ الاتصالات التي تكثّفت بين هذه الأطراف خلال الأيام الماضية تركّزت بشكل أساسي على "تنسيق المواقف" على هذا الصعيد قبل أي شيء آخر، فيما لا يزال حلّ "العقد" المرتبطة بهم "شبه مستعصٍ".

ولا شكّ أنّ رئيس الحكومة المكلّف، المتمسّك بتفاهمه مع الرئيس عون و"​التيار الوطني الحر​"، مصرٌ بالقدر نفسه على عدم الذهاب إلى حكومة "أكثرية" أياً كانت الظروف والدوافع، لاعتقاده أنّ "الثمن" سيكون غالياً عليه بالدرجة الأولى، سواء في علاقته مع مكوّنات حكومته، أو مع "أصدقائه" في الخارج، ممّن لم يكونوا أصلاً راضين عن تقاربه مع "التيار الوطني الحر"، ومساكنته مع "​حزب الله​". ويتشبّث الحريري في هذا السياق بمقولة أنّه كُلّف بشبه إجماعٍ نيابي على أساس تشكيل حكومة وحدة وطنية، أو حكومة وفاق وطني، بناءً على نتائج الانتخابات النيابية، وهو لن يقبل بتشكيل حكومة تقصي أو تلغي أو تعزل أياً من الأطراف الأساسية، بل إنّه يفضّل "الاعتذار" إذا ما وصل إلى "حائط مسدود" بدل الذهاب إلى مثل هذه الخطوة.

ولا يخفى على أحد أنّ الحريري يحصل على مؤازرة كلّ من رئيس حزب "القوات اللبنانية" ​سمير جعجع​ ورئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" ​وليد جنبلاط​ في موقفه هذا، علماً أنّ المعطيات المتوافرة تؤكد أنّ شيئاً لم يتغيّر على خط العقدتين "المسيحيّة" و"الدرزيّة" حتى الآن، على الرغم من "الليونة" التي حُكي عنها أخيراً على هذا الخط. فعلى الرغم من "تهدئة الجبهات"، خصوصاً على ضفّة "الاشتراكي" و"الوطني الحرّ" في ضوء فتح قنوات تواصل بين الجانبين، وعلى الرغم من "المرونة" التي أظهرها "البيك" مقارنة بمواقفه السابقة، لا يزال "الفيتو" على توزير "غريمه" النائب ​طلال أرسلان​ يتقدّم على ما عداه.

وفي المقابل، لا يبدو أنّ "التهدئة" التي أعلنها جعجع، بدعوته مناصري ومحازبي "القوات" إلى عدم الدخول في أيّ سجالات، وجدت ترجمتها العمليّة على الأرض من خلال أيّ "مرونة" مستجدّة، بل ثمّة من يقول إنّ جعجع أبلغ الحريري رسمياً خلال اللقاء الذي جمعهما الأسبوع الماضي، العودة إلى "نقطة الصفر"، أي إلى المطالبة بخمسة وزراء، ورفضه بالتالي ما أثير عن عرضٍ قُدّم له بالحصول على حقيبتين مع وزارة دولة، بالإضافة إلى مركز نائب رئيس الحكومة، وهو ما يوحي بذهاب الأمور إلى المزيد من "التعقيد" وليس العكس.

حكومة من دون "التيار"؟

إزاء كلّ ذلك، لا يبدو مبالَغاً به القول إنّ عون لم يكن يعتقد أنّ "مبادرته" قد تلقى القبول ليس فقط من ثلاثي "المستقبل" و"القوات" و"الاشتراكي"، بل حتى من العديد من حلفائه، وفي مقدّمهم "حزب الله"، ولكنّه أراد أن يعيد الاندفاعة إلى الملف الحكومي، بعدما دخل في "غيبوبة"، وهو ما تحقّق بالحدّ الأدنى من خلال اللقاءات التي سُجّلت في الأيام الماضية، والتي مهّدت لجولة مفاوضات جديدة يفترض أن يشهدها الأسبوع الحالي.

وإذا كان عون أراد أن يوجّه رسالة إلى المعنيّين بالعقد على اختلافها بأنّ "صبره يكاد ينفد"، خصوصاً بعد صدّ كلّ مبادراته من دون تقديم أيّ بديل، وانقضاء شهر أيلول من دون أيّ حلّ كما كان قد وعد، فإنّ هناك من يقرأ في مواقفه "رسالة" واضحة إلى رئيس الحكومة المكلّف نفسه، خصوصاً مع خروج نواب وقياديين في "تيار المستقبل" ليحمّلوا "التيار الوطني الحر" صراحةً وجهاراً مسؤولية عرقلة تأليف الحكومة، وهو ما يزيده قناعة بوجود "عرقلة خارجية" أساساً تحول دون تأليف الحكومة، في تكرارٍ لمسلسل "الضغط على لبنان" المستمرّ منذ ما قبل الانتخابات النيابية، بل منذ ما قبل استقالة الحريري الشهيرة من الرياض.

لكن، أبعد من كلّ ذلك، هناك من يتوقف عند تلميح رئيس الجمهورية إلى إمكان الذهاب إلى حكومة من دون الأطراف القريبة منه، وتحديداً "التيار الوطني الحر"، بقوله "أنا رئيس للجمهورية ولا يمكنني الخروج من الحكومة، لكن قد تخرج الأحزاب التي تؤيّدني منها"، ما يطرح التساؤلات عمّا إذا كانت "حكومة الأكثرية" تصبح مقبولة في هذه الحال، أو عمّا إذا كان خياراً جدياً يمكن أن يذهب إليه الرئيس عون.

ومع أنّ هذه الفكرة سبق أن طُرِحت من خلال نائب رئيس المجلس النيابي ​إيلي الفرزلي​، فإنّ الأرجح، بحسب ما يقول بعض المتابعين، أنّ الأمر لا يعدو كونه "رسالة" إلى رافضي "حكومة الأكثرية"، يبقى من المُستبعَد تطبيقها عملياً، للكثير من الحسابات والاعتبارات، ينطلق أولها من "المنطق" الذي لا يجعل من الوارد إقصاء كتلة نيابية بحجم "لبنان القوي" عن الحكومة، مقابل حضور كتلٍ أقلّ حجماً، وإن كانت وازنة.

حلقة مفرغة...

قد يقول قائل إنّ حديث رئيس الجمهورية لا يرتقي إلى مستوى "مبادرة"، خصوصاً أنّ العالِم بالتفاصيل والحيثيات اللبنانية يدرك سلفاً أنّ "حكومة الأكثريّة" غير واردة، ليس فقط بسبب "الفيتو الثلاثي" الذي اصطدمت به، بل لأنّ "التيار الوطني الحر" قبل غيره يرفضها، انطلاقاً من تجارب سابقة.

وقد ينطبق الأمر أيضاً على الطروحات السابقة التي تقدّم بها عون، من المهل الزمنية للتأليف، إلى التلويح بسحب التكليف، من أمورٍ لم ينصّ عليها الدستور، ولا شكّ أنّها ستؤدي إلى مشاكل كبرى في البلاد، ولو وُجِدت اجتهادات أو فتاوى دستورية تشرّعها غبّ الطلب.

لكنّ الأكيد أنّ عون يحاول صدّ التهم الموجّهة له ولـ "التيار" بالعرقلة، والقول إنّه "يبادر" فيما الآخرون يضعون العصيّ في الدواليب. وبغضّ النظر عمّا إذا كان الأمر مرتبطاً بالخارج أم لا، فإنّ اللبنانيين باتوا مقتنعين بوجود "تواطؤ ما"، خصوصاً أنّ كلّ المفاوضات، الظاهر منها على الأقلّ، لا تزال تدور في حلقة مفرغة، محورها غنيمة من هنا وحصة من هناك!