ترددت كثيراً في كتابة هذه السطور خوفاً من تفسير كلامي على غير منحاه أو اعتباره تدخلاً في الشأن السوري الداخلي لكن وبعد أخذ ورد بيني وبين نفسي وانطلاقاً من واجبي القومي العربي ونظراً لانتمائي إلى سورية ​العروبة​ سياسياً وجغرافياً واجتماعياً وحرصاً مني على الجمهورية العربية السورية وهويتها القومية العربية سورية التي تربيت على ريادتها للعمل العربي ولأنها سورية المدافعة عن الحقوق العربية، سورية التي حملت ​القضية الفلسطينية​ بين أضلعها، سورية التي أحب وحيث أنتمي ارتأيت أن من حق سورية عليّ أن أكتب وأبوح بمشاعر القلق الذي انتابني على مستقبل ووحدة المجتمع السوري وخصوصاً بعد صدور المرسوم رقم 16 الخاص بوزارة الأوقاف القاضي بتنظيم النشاط الديني في الجمهورية العربية السورية تزامناً مع بروز تيارات سياسية وغير سياسية علمانية متطرفة وأكثر تطرفاً من تلك الأفكار والتيارات الدينية المتزمتة بحد ذاتها.

بعد صدور المرسوم المذكور اجتاحت ​وسائل التواصل الاجتماعي​ بالاشتراك مع بعض الصفحات الصفراء والأقلام المأجورة موجة عنيفة من تبادل الآراء و​النقاش​ات الحادة التي غالباً ما خرجت عن طورها وعن حدود النقاش الهادئ لتتحول وتتطور لتأخذ شكل الاشتباك العقائدي العلماني ونسوا مضمون المرسوم موضوع النقاش بعد اللجوء إلى توجيه الاتهامات والاتهامات المضادة بشكل سلبي ومتطرف أظهرت بشكل بائن تلك الفجوة المفتعلة التي أصابت المجتمع جراء مؤثرات الأزمة الأمر الذي أصابني بالهلع من الضرر الذي لحق بطبقة مثقفة من المجتمع السوري كنت قد حسبتها قدوة في إدراك المخاطر المؤثرة ومثالاً في التوجه والثقافة والانتماء الوطني السوري.

وبعد ما تقصدت مراقبة تلك الحوارات الدائرة بين مختلف مكونات المجتمع السوري بين مؤيد ومعارض لمضمون المرسوم رقم 16 والاكتفاء بالبقاء بعيداً عن المشاركة في أي من الحوارات أو الرد على انتقاد البعض لما جاء فيه وذلك لاعتقادي أن النقاش يدور حول مسألة سورية داخلية لا يحق لي أنا اللبناني إبداء أي رأي في مضمون المرسوم بحد ذاته وخصوصاً أنه يحمل توقيع سيادة قائد البلاد الرئيس ​بشار الأسد​.

لست في وارد مناقشة مضمون المرسوم وتفاصيله لكن للأمانة بعد مراقبتي للحوارات الغنية بالتطرف من كلا الجانبين متديناً كان أم علمانياً استطيع وصف النقاش بأنه كان بمعظمه نقاشاً الغائياً للآخر ولم ألحظ مرونة في التفكير المترفع والحوار البناء في تقبل الآخر على أساس بقاء النقاش تحت سقف المصلحة الوطنية إلا عند القلة القليلة ممن لم يزل يحتفظ بتوازنه وقناعاته الوطنية القائمة على أساس قبول التنوع في الأفكار والحضارة والانتماء الديني لكل أطياف المجتمع السوري وضرورة احترام حقوق السوريين بممارسة شعائرهم بكل حرية وتقبل جميع أطياف الوطن واعتبار سورية وطناً للجميع وخيمة ومظلة للجميع تحمينا من ويلات الفتنة والطائفية.

نعم كنت أراقب عن بعد وأقول بصراحة إن الهلع وأمواج القلق أصابتني مما قرأت وسمعت ليس على مستقبل سورية إنما من مستوى التباعد الحاصل بين التدين والفكر والعقيدة والانتماء للهوية الوطنية عند مختلف الأطياف السورية الأمر الذي يجعل من الصعوبة بمكان وجود إمكانية إعادة اللحمة للمجتمع السوري في ظل هذا النوع من الخطاب أو النقاش وخصوصاً بعد تلك المحنة التي ضربت الوطن السوري.

صحيح أن ما أصاب سورية جراء تلك المؤامرة الكونية لهو بالأمر الفظيع بكل ما تعني الكلمة وعلى جميع الأصعدة ولم يشهد التاريخ مثيلاً لها لكن الأزمة ومخلفاتها يجب أن تشكل حافزاً لأخذ الدروس والعبر وأن نجعل من إفرازات الأزمة التي مرت بها سوريه كتاباً وطنياً مقدساً يجعلنا أكثر تمسكاً بسورية التعددية في تقبل الفكر والفكر الآخر ولتمكين سورية من تبوؤ مركز الصدارة في حوار واحتضان الأديان كلها لتكون سورية جامعة الحضارات واللغات ونجعل من سورية قدوة للعالم نفخر بها.

حاربنا دفاعاً عن سورية العروبة الجامعة وعن هويتها وعن حضارتها وثقافتها ونفخر بذلك كما أن سورية تفخر بأنها أول من حارب الفكر التكفيري والتطرف الديني وكشفت عنه القناع الخبيث منذ ثمانينيات القرن الماضي وحافظت على ​الدولة المدنية​ ​العلمانية​ ومنعت أي معتقد ديني من التمكن في التأثير في علمانية القرار السيادي السوري كما أن سورية شكلت ولم تزل تشكل خط الدفاع الأول ليس عن سورية وهويتها السياسية فقط إنما عن هوية المنطقة العربية برمتها.

إن انتصار الجمهورية العربية السورية هو انتصار للانتماء القومي العربي وانتصار للهوية العربية المظللة لكل الأطياف السياسية منها والدينية المظللة لكل الحضارات والثقافات واللغات من هنا وانطلاقاً من الحرص والواجب القومي نقول: إن بروز تيارات سياسية رافعة لشعار سورية أولاً أو تيارات تدعو إلى ​النأي بالنفس​ عن تحولات المنطقة العربية لهو أمر بالغ الخطورة وهو تنفيذ لرغبات الغرب الذي يريد تمزيق المجتمع السوري وسلخه عن هويته الوطنية العربية وجعلها هوية دينية تتقدم على أي انتماء وطني كما أن بروز تطرف علماني وجعله في مواجهة التطرف الديني أمر بالغ الخطورة نظراً لما لهذا الفكر من إمكانية اختزان التطرف واختزال الآخر ما يسهم في تباعد وانعدام أي محاولة لفهم أو قبول باقي مكونات الوطن ولأنه ثبت في صفحات التاريخ أن أي تطرف لم يستطع إلغاء أي تطرف آخر مهما كانت هويته ومهما كانت قوته.

إننا بحاجة لوقفة وطنية سورية للتأمل والتبصر لكسب المزيد من الحكمة تصب بمصلحة سورية العروبة الجامعة تساعد المجتمع السوري في الارتقاء فوق الأحقاد وتسهم في القفز فوق إفرازات ومخلفات الأزمة والمساهمة في بناء الدعائم الأساسية لإعادة بناء الأجيال السورية والعربية على أسس التعددية وقبول الآخر.

إن سيادة الرئيس بشار الأسد بشرنا بكل فرح قرب استعادة سورية لدورها الريادي المحوري وهذا الخبر أثلج قلوبنا نظراً لما يعانيه الموقف العربي من تشتت وتمزق وعدم احتساب له إلا بالعلامة صفر في أي معادلة إقليمية أو دولية.

إن الجمهورية العربية السورية ودورها المحوري حاجة قومية عربية قبل أن يكون حاجة سورية وان تعزيز العمل لتحقيق وترجمة ما قاله سيادة الرئيس بشار الأسد في استعادة الدور المحوري يتطلب منا اليقظة والعمل على سد كل الثغرات التي تسمح للأعداء النفاذ منها وتخريب الانتماء الوطني في أذهان أجيالنا عبر تنفيذ ما يسمى الحرب ​الناعمة​ لذلك علينا جميعاً أن نرتقي إلى مستوى المسؤولية الوطنية وتبديد كل المخاوف ونبذ التطرف بكل أشكاله وتجاوز كل مخلفات ومؤثرات ​الأزمة السورية​ والتوجه نحو تضافر الجهود في اعتماد الخطاب والنقاش الوطني الهادئ والراقي وقبول الآخر في سبيل تعزيز الوحدة الوطنية في المجتمع السوري بكل تياراته وأطيافه السياسية والدينية.

إن الجمهورية العربية السورية صمدت وأسقطت كل المراهنات وأفشلت كل مخططات الأعداء وها هي تكتب الفصل الأخير من الأزمة المريرة وباتت على أعتاب النصر الكبير.

أيها السوريون باسم الأخوة والقومية والهوية والانتماء العربي نقول: صوناً لدماء الشهداء وحفاظاً على نصر سورية وحرصاً على تمكينها من استعادة دورها المحوري، لا تسهموا في إنجاح حرب الأعداء الناعمة.