ليست المرّة الأولى التي يختلف فيها رئيس الحكومة المكلّف ​سعد الحريري​ ورئيس "التيار الوطني الحر" وزير الخارجية والمغتربين في حكومة تصريف الأعمال ​جبران باسيل​ منذ تكليف الأول تشكيل "حكومة العهد الأولى".

اختلف الرجلان سابقاً على الكثير من المقاربات والطروحات الحكومية، ووصل بهما الأمر لحدّ "مقاطعة" بعضهما بعضاً لفترةٍ من الوقت، إلا أنّ اختلافهما بقي دائماً "مبطناً" خلف السطور، من دون أيّ صدى أو ترجمة عملية له على أرض الواقع.

قبيل اجتماع كتلة "المستقبل" الأخير، سجّل الحريري "خرقاً" لـ"دبلوماسية" لطالما اعتمدها مع باسيل، فاعتبر أنّ كلامه بعيد حديثه التلفزيوني الأخير لم يكن إيجابياً، وردّ بشكلٍ مباشر على بعض ما قاله، معلناً أنّه لن يقبل بأن يُكلَّف من جديد إذا ما اعتذر.

لا شكّ أنّ "الجرّة" لم تنكسر بين الرجلين، وهي لن تنكسر على الأرجح في المدى المنظور، إلا أنّ ما حصل يدفع إلى التساؤل عن طبيعة العلاقة بينهما، ودوافع "العتب المتبادَل" الذي لم يعد بخافٍ على أحد...

الحريري "عاتب"

في مؤتمره الصحافي الأخير، طرح وزير الخارجية جبران باسيل أفكاراً هي في معظمها مكرَّرة عمّا سبق أن طالب به تكتل "لبنان القوي"، سواء لوجود معيار واحد موحّد في تمثيل الكتل النيابية في الحكومة، أو لجهة مقاربته للعقد الحكومية الأبرز، من العقدة المسيحية وكيفية تمثيل "​القوات اللبنانية​"، إلى العقدة الدرزية والإصرار على تمثيل النائب ​طلال أرسلان​.

لكن، فيما كان الحريري ينأى بنفسه سابقاً عن الدخول في "متاهة" الردود والردود المضادة في العادة، يبدو أنّه قرّر هذه المرّة خرق هذا الأداء "الدبلوماسي"، أولاً لأنّه وجد في المؤتمر الصحافي لباسيل "تشويشاً" على الأجواء التفاؤلية التي حرص على بلورتها في حديثه التلفزيوني قبل يومٍ واحدٍ من كلام باسيل، وثانياً لأنّ رئيس "التيار الوطني الحر" أعاد نقاشاتٍ يفترض أنها أغلِقت، على الأقلّ في العلن وعبر الإعلام، من "المعايير" إلى ما سواها.

أكثر من ذلك، إن دلّ ردّ الحريري العلنيّ الأول من نوعه على باسيل على شيء، فهو على وجود "عتب" لديه على باسيل، خصوصاً أنّه حرص في حديثه التلفزيوني إلى توجيه الرسائل الإيجابيّة باتجاهه، وعدم مجاراة النغمة السائدة بتحميله كلّ المسؤوليات. ولذلك بالتحديد أطلق معادلة رفضه إعادة تكليفه في حال اعتذاره، رداً على قول رئيس "التيار الوطني الحر" وكثيرين ممّا يدورون في فلكه مراراً وتكراراً إنّ الحريري سيُكلَّف من جديد في حال اعتذاره، بل ذهاب بعض هؤلاء للدفع باتجاه هذا السيناريو، على اعتبار أنّه سيخلط قواعد التشكيل، بل يعيد النقاش في شكل الحكومة ككلّ.

وبين هذا وذاك، ثمّة من يقول إنّ "عتب" الحريري الأكبر على باسيل منذ أشهر وليس منذ اليوم، هو شعوره في مكانٍ ما بوجود "توزيع أدوار" بينه وبين رئيس الجمهورية ​ميشال عون​، يكاد يشبه إلى حدٍ بعيد ما كان يُتَّهم به مع رئيس كتلة "المستقبل" سابقاً فؤاد السنيورة. فهو كلما اجتمع مع رئيس الجمهورية خرج من اللقاء مرتاحاً و"متفائلاً أكثر من أي وقت مضى" كما يكرّر دوماً، ليأتي باسيل و"ينسف" هذه "الإيجابية" إلى حدّ كبير، أو "يجمّدها" بالحدّ الأدنى، تماماً كما حصل بشكلٍ أو بآخر الأسبوع الماضي.

... وباسيل أيضاً!

إذا كان الحريري "عاتباً" على باسيل، لأنه يعتبر أنّ الأخير لم يتلقف يده الممدودة وعدم تحميله مسؤولية ما آلت إليه الأمور رغم كلّ الضغوط التي يتعرّض لها من الحلفاء والأصدقاء، فإنّ ما لا شكّ فيه أنّ مثل هذا "العتب" متبادل، إذ إنّ رئيس "التيار الوطني الحر" عاتب أيضاً في المقابل على من اعتبره "شريكاً فعلياً" لـ"العهد القوي"، فيما أداؤه لا يزال يفتقر إلى "القوّة" المطلوبة، ليضرب بيد من حديد ويفرض الحكومة التي يشاء، بعدما أخذت المفاوضات قسطها من الوقت، وأكثر.

ولعلّ "العتب" الأساسيّ لدى باسيل على الحريري، والذي ترجم في مؤتمره الصحافي الأخير، يتمثّل في تلكؤ رئيس الحكومة المكلف في فرض معيار واضح وموحَّد تؤلَّف الحكومة على أساسه، وتأثره ببعض أصدقائه وحلفائه الذين يمونون عليه من هنا وهناك، فيما المفترض أن يحصل العكس، وأن يمون هو عليهم. ويعتبر باسيل أنّ الحريري الذي يبقى مرشحه الوحيد لرئاسة الحكومة، لا يزال يتعامل بشيء من التبسيط مع العقد الحكومية التي يواجهها، بل إنّه يقف طرفاً في بعضها، كما حصل في العقدة الدرزيّة، بدليل عدم لقائه الوزير طلال أرسلان ولو لمرّة واحدة للاستماع إلى وجهة نظره، فيما يلتقي دورياً رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" ​وليد جنبلاط​ أو الموفدين من قبله، من دون أن ننسى تجاهله التام للعقدة السنية، وحقّ القوى السياسية غير المنخرطة ضمن تيار "المستقبل" بالتمثل، أسوة بغيرها على الأقلّ.

ومع أنّ "التيار الوطني الحر" أعلن أكثر من مرّة وقوفه على "الحياد"، ودعا رئيس الحكومة المكلّف إلى تشكيل الحكومة بمفرده، بالتنسيق مع رئيس الجمهوريّة بطبيعة الحال وفقاً للدستور، فإنّ الجمود كان سيّد الموقف دوماً، كما يقول مؤيدو باسيل، لافتين إلى أنّ الأخير "عاتب" أيضاً لأنّ هناك في محيط الحريري من لا يتردّد في رمي المسؤولية مباشرة على "التيار" في تأخير تأليف الحكومة، وثمّة كلامٌ موثّقٌ في العلن وعبر الإعلام لنواب وقياديّين في "المستقبل" يقولون مثل هذا الكلام، من دون أيّ توضيح أو مساءلة.

ولا شكّ أنّ كلام السنيورة قبل يومين يندرج في هذه الخانة، خصوصاً لجهة ما أسماه بـ"الانزلاق نحو أعراف جديدة ما يؤدي إلى إفساد العملية الديمقراطية"، وقوله إنّ حصّة رئيس الجمهورية في الحكومة، وتسميته نائب رئيسها، "أمران غير دستوريّين"، علماً أنّ السنيورة ترأس في عهد الرئيس السابق ميشال سليمان حكوماتٍ طبّقت هاتين القاعدتين من دون أن يعترض هو أو غيره على ذلك، كما يحصل اليوم.

"على قدر المحبة"

يقال في العادة، إنّ "العتب على قدر المحبّة".

من الصعب الجزم إن كانت هذه القاعدة تنطبق اليوم على الحريري وباسيل، لأنّ "المحبة" بحدّ ذاتها تكاد تكون غائبة عن فنون السياسة اللبنانية عموماً.

فالحريري وباسيل اللذان كانا بالأمس بمثابة "الشقيقين" ضمن معادلات "العهد"، كانا قبل سنوات "خصمين مشاكسين"، والجميع يذكر ملفات "الإبراء المستحيل"، تماماً كـ "تطيير" حكومة الحريري بضربة "شهود الزور" القاضية.

رغم ذلك، فإنّ تبعات هذه القاعدة تنطبق اليوم، لأنّ الأكيد أنّ الحريري وباسيل ينظران إلى ما هو أبعد من تأليف الحكومة الحالية، ولذلك فإنّ كلّ "عتبهما" سيبقى محدوداً بسقوفٍ واضحة، سيحرصان على عدم تخطيها، على الأقلّ في المدى المنظور...