وقعَت خلال الساعات الماضية إشتباكات مُسلّحة داخل مُخيّم "الميّة وميّة"، بين مُسلّحين تابعين لحركة "فتح" وآخرين تابعين لحركة "أنصار الله"، إستعملت فيها الأسلحة الرشّاشة والقذائف الصاروخيّة، ما أسفر عن سُقوط عدد من القتلى والجرحى(1). فهل هذه الإشتباكات فرديّة أم لها خلفيّات أخرى؟.

بداية لا بُد من التذكير أنّ الخروقات الأمنيّة وحتى الإشتباكات المُسلّحة ليست بجديدة على مخيّم "الميّة وميّة"، علمًا أنّ المُواجهات العسكريّة الأخطر كانت قد وقعت في نيسان من العام 2014، وأسفرت في حينه عن مقتل وجرح نحو 20 شخصًا(2). وخطر الإنزلاق إلى المُواجهة الأمنيّة الشاملة بين مُسلّحي المُخيّم تكرّر في تمّوز الماضي، عندما إتهم مسؤول جماعة "أنصار الله" الشيخ جمال سليمان بشكل غير علني حركة "فتح" بالتحضير لإغتياله بعبوة ناسفة عبر تجنيد أحد مُرافقيه لهذه الغاية (3). وبعد أيّام من المُماطلة والتسويف ورفض تسليم المُتهم المذكور إلى مديريّة الإستخبارات في الجيش للتحقيق معه، وبالتالي لكشف مُلابسات القضيّة، وُجد المُتهم مَشنوقًا، وتدخّلت أكثر من مرجعيّة سياسيّة ​لبنان​يّة وفلسطينيّة للفلفة القضيّة!.

واليوم، ومع الجولة الجديدة من الإشتباكات في "الميّة وميّة"، والتي شهدت مُحاولات تقدّم مُتبادلة، السبب هو نفسه منذ سنوات، صراع نُفوذ أمني وسياسي داخل المخيّم بين حركة "فتح" من جهة، وحركة "أنصار الله" من جهة أخرى. وفي هذا السياق، تسعى حركة "فتح" إلى تعزيز سيطرتها على "الميّة وميّة"، كما على سواه من المخيّمات الصغيرة في لبنان، خشية أن يتكرّر ما حصل في "​عين الحلوة​"، لجهة تنامي نُفوذ الحركات المُسلّحة التي لا تُغرّد تحت جناحي "السُلطة الفلسطينيّة"، وبعضها يُصنّف في خانة الخصم اللدود لها، بحيث تجهد "الحركة" لمنع خروج أحياء ومناطق كاملة من هذه المخيّمات عن سيطرتها. في المُقابل، تسعى حركة "أنصار الله" إلى تمديد نُفوذها الأمني الميداني في "الميّة وميّة"، وهي تعمل على مُواجهة مُختلف مُحاولات "الحركة" لتقييد تحرّكاتها. والإشكالات الثانويّة بين الطرفين مُتعدّدة، وهي شملت في المرحلة الأخيرة سلسلة من الخلافات الفرديّة، مُرورًا بمُواجهة ميدانية عند مُحاولة "فتح" تثبيت كاميرات مُراقبة في بعض أحياء "الميّة وميّة" ورفض "أنصار الله" لهذا الأمر، وُصولاً إلى العمل الإستخباري المُتضارب بين الطرفين وإتهام كل طرف الآخر بالسعي لتدبير كمائن أمنيّة غادرة بحق مسؤوليه.

واللافت أنّه في كل مرّة يتجدّد فيها الخلاف بين الطرفين، يجري الحلّ "وفق الطريقة اللبنانيّة"–أي بمعنى آخر، يتدخّل أكثر من مسؤول سياسي وأمني وحزبي لبناني وفلسطيني لوقف النار، وللعمل على سحب المُسلّحين من الشوارع، من دون حلّ أي من المشاكل الفعليّة من جذورها. والمُفارقة أنّ حركة "أنصار الله"-وعلى الرغم من تصنيفها في خانة "الحركات الإسلاميّة المُتشدّدة"، فإنّها لا تزال تتمتّع بعلاقات جيّدة مع العديد من أحزاب وقوى "8 آذار" في لبنان، وفي طليعتها "​حزب الله​"، بصفتها حركة "مُقاومة إسلاميّة"، مع التذكير أنّ أمين عام الحركة الحاج سليمان كانت له أدوار في مُقاومة الإحتلال الإسرائيلي للبنان في مرحلة الثمانينات، الأمر الذي ساعده على طيّ صفحة الإشكالات مع "الحزب" والتي كانت ظهرت بين مُختلف القوى الفلسطينيّة المُصنّفة "جهاديّة"، بسبب الموقف المُتناقض من الحرب في سوريا والنظام هناك. وبالتالي تستفيد حركة "أنصار الله" حاليًا مِمّا يُمكن إعتباره نوعًا من الغطاء السياسي، لتُفشل كل محاولات حركة "فتح" لتطويقها ولإخضاعها أمنيًا، كما يحصل مثلاً مع جماعات فلسطينيّة مُتطرّفة أخرى في مخيّم "عين الحُلوة" وهي معروفة بعدائها الشديد للنظام السُوري ولمُختلف القوى التي تدعمه. وهذا "الغطاء السياسي" جعل أي إجراءات مُتّخذة من جانب قائد "قوات الأمن الوطني الفلسطيني" في لبنان ​اللواء صبحي أبو عرب​، أو قائد "القُوّة الأمنيّة الفلسطينيّة المُشتركة" في مخيّمات لبنان ​اللواء منير المقدح​، مُجرّد تدابير فولكلوريّة تُنهي أي اشتباك مُسلّح لفترة زمنيّة محدودة، لكنّها لا تزيل أسبابه، ولا تقضي على جُذوره.

في الختام، وبغضّ النظر عن أسباب مَوجة القتال الجديدة في "المية وميّة"، والتي تسبّبت بعدد من الخسائر البشريّة إضافة إلى تعطّل الأشغال وإقفال بعض المدارس في عدد من مناطق صيدا والمُحيط، المُواجهة للمخيّم، من حق كل لبناني أن يسأل عن أسباب بقاء هذا السلاح المُتفلّت بيد مجموعات مُسلّحة غير لبنانية داخل "كانتونات" أمنيّة خارجة على سُلطة الدولة؟! والأكيد أنّ بناء أي دولة قويّة يبدأ بأن تفرض هيبتها الأمنيّة وُحكم القانون على كامل أراضيها، فالجيش والقوى الأمنيّة الرسميّة هي الضامنة لأمن كل اللبنانيّين، وكذلك لكل اللاجئين السوريّين والفلسطينيّين على أرض لبنان، وليس أي مجموعات مُسلّحة أخرى، خاصة وأنّ جزءًا كبيرًا من هذه المجموعات مُموّل ومُسلّح من الخارج ويأتمر منه ويعمل وفق أجنداته، وبعضها مُصنّف في خانة الإرهاب ويُساهم في ضرب الإستقرار اللبناني الداخلي.

(1) من بين الجرحى الشيخ إبراهيم سلامة، مندوب حركة "حماس" في اللجنة الشعبيّة داخل المُخيّم، وهو أصيب بينما كان يسعى ميدانيًا لوقف النار.

(2) إتهمت حركة "أنصار الله" مُسلّحين تابعين لمجموعة "كتائب العودة" بتحضير كمين لإغتيال مسؤول الحركة جمال سليمان، ما أسفر عن إندلاع معارك واسعة بين الطرفين، أسفرت عن تصفية المسؤول الأمني أحمد رشيد المحسوب على حركة "فتح" وعدد من أشقائه ومُرافقيه على يد مُسلّحي "أنصار الله".

(3) بحسب رواية "أنصار الله" جرى تكليف أحد مُرافقي الشيخ سليمان بهذه المُهمّة ويُدعى بلال زيدان، من قبل قيادي أمني في حركة "فتح"، وقد وُجد المُتهم جثّة هامدة بعد أيّام على إعتقاله والتحقيق معه داخل المُخيّم، وتمّ الإدعاء عندها بأنّه أقدم على الإنتحار، علمًا أنّ جثته حملت آثار تعذيب.