وُضِعت الحكومة على نارٍ حامية. هذا ما توحي به كلّ التسريبات حول المشاورات المكوكيّة التي حفلت بها الساعات الماضية، معطوفة على مفاوضات ربع الساعة الأخيرة التي يجريها رئيس الحكومة المكلف ​سعد الحريري​، بدعمٍ مباشرٍ من رئيس الجمهورية ​ميشال عون​.

ولأنّ "السياسة فن التسوية" كما قال رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" ​وليد جنبلاط​ بعد لقائه عون في قصر بعبدا، فإنّ "التسوية" تكاد تكون عنوان الحلّ لمختلف العُقَد الظاهرية التي حالت طوال الأسابيع الماضية دون تأليف الحكومة، رغم استمرار "المفاوضات" حول توزيع الحقائب ونوعيّتها وثقلها.

لكنّ المقارنة بين ما يتسرّب وما كانت تطالب به "القوات اللبنانية" سابقاً يوحي بأنّ "التسوية" أطاحت أو تكاد بكلّ مطالبها وشروطها، من الحقائب الخمس، إلى الوزارة السياديّة وصولاً إلى الأساسيّة وما بينهما، لتبدو نيابة رئاسة الحكومة بمثابة "جائزة ترضية" لا أكثر. فهل تكون "القوات" الخاسر الأكبر حكومياً؟!.

أين الحلفاء؟!

محطاتٌ كثيرة مرّت بها مفاوضات تأليف الحكومة، كانت مطالب "القوات اللبنانية" حاضرة في معظمها. في البدء، طالبت بتقاسم المقاعد المسيحيّة مع "التيار الوطني الحر" ترجمة لاتفاق معراب، قبل أن تعلن قبولها بثلث المقاعد المسيحيّة في الحكومة، أي خمسة مقاعد، معتبرة ذلك حقّها الطبيعي، ليتراجع الرقم ويتقدّم من جديد في محطّات عدّة. وبموازاة الحجم، كان "نوع" الحقائب عرضة للأخذ والردّ، فطالبت "القوات" بنيابة رئاسة الحكومة مع حقيبة سياديّة، ما لبثت أن قبلت مقايضتها بأخرى أساسيّة، من وزن حقيبة العدل أو ما يشابهها.

وعلى الرغم من أنّ التشكيلة الحكوميّة لم تولَد بصيغتها النهائية بعد، إلا أنّ كلّ التسريبات توحي بأنّ "القوات" لن تحصل من سلسلة مطالبها سوى على نيابة رئاسة الحكومة بعد موافقة رئيس الجمهورية على التنازل عنها. ونتيجة لذلك، تبدو "القوات" وحيدة في البازار الحكوميّ بعدما تخلى "الحلفاء" عنها، بدءاً من رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري، وصولاً إلى رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" وليد جنبلاط، فيما كانت منشغلة برفع الأسقف وتصعيد المواجهة مع "الخصوم" وعلى رأسهم "التيار الوطني الحر".

وفي هذا السياق، لا يبدو خافياً على أحد أنّ الحريري الذي تبنّى في مرحلة من المراحل مطالب "القوات"، بات اليوم أكثر من "مستعجل" لتأليف الحكومة مهما كان الثمن، خصوصاً في ضوء ما يُحكى عن ضغوطٍ فرنسيّة للإسراع في تأليف الحكومة لترجمة الوعود التي قُطِعت في مؤتمر "سيدر". وتشير المعطيات إلى أنّ الحريري سمع مثل هذا الكلام مباشرة وصراحة من الموفد الرئاسي الفرنسي المكلّف متابعة تنفيذ مقررات المؤتمر السفير بيار دوكان خلال زيارته الأخيرة إلى لبنان، لجهة التشديد على ضرورة ​تشكيل الحكومة​ بأسرع وقت لوضع المقررات المتخذة في المؤتمر موضع التنفيذ.

ومع أنّ "القوات" وجدت في "الحزب التقدمي الاشتراكي" حليفاً مباشراً وأساسياً خلال مرحلة المفاوضات الحكوميّة، في مواجهة معايير رئيس "التيار الوطني الحر" وزير الخارجية في حكومة تصريف الأعمال جبران باسيل، فإنّ "الخاتمة" لم تبدُ "سعيدة" بدورها على صعيد هذا الحلف، إذ انّ جنبلاط دخل في "التسوية"، متخلياً عن الوزير الدرزي الثالث الذي كان يصرّ على أن يكون من حصّة "اللقاء الديمقراطي"، مشترطاً الاحتفاظ بحقيبة التربية التي كانت عين "القوات" عليها، بما لا يترك للأخيرة أيّ حقيبةٍ "شبه دسمة" في إطار "البازار" الحاصل.

"أمر واقع"

صحيح أنّ "القوات" تحاول تحصيل شيءٍ ما من خلال مفاوضات الساعات الأخيرة، خصوصاً عبر المقايضة على حقيبة العدل مع رئيس الجمهوريّة، رغم ما أثير عن تمسّك الأخير بها، وبشخص الوزير سليم جريصاتي على رأسها، إلا أنّه من غير المتوقع أن يقف خصوم "القوات" على خاطرها أكثر، على حساب حصصهم ومكتسباتهم، خصوصاً بعد جولات التصعيد المتبادَل بينهم في الأسابيع القليلة الماضية، وإن أفضت إلى اتفاق على "التهدئة" لا يُعرَف إن كان سيصمد لفترة طويلة.

لكن، ماذا بعد ذلك؟ هل ترضى "القوات" بما سيُعرَض عليها، أم تلجأ إلى الانسحاب من الحكومة رفضاً لأسلوب التعاطي معها؟.

تشير كلّ المعطيات إلى أنّ "القوات" ستسير بتشكيلة "الأمر الواقع" في نهاية الأمر بمعزلٍ عن مضمونها، علماً أنّ المحسوبين عليها يصرّون على أنّ الأمور لم تنتهِ بعد، وأنّ ساعات ما قبل ولادة الحكومة تشهد في العادة الكثير من خلط الأوراق، وهو أكثر من وارد ومرجَّح اليوم، ولا يستبعدون أن تنال حقيبة العدل في نهاية المطاف، خصوصاً أنّ رئيس الجمهورية يملك ضمن حصّته حقيبة سياديّة هي وزارة الدفاع، وكذلك "التيار الوطني الحر" يملك حقيبة الخارجيّة، ما يجعل منحها حقيبة العدل أمراً ممكناً، مستبعدة أن يكون هناك "فيتو" على نيلها هذه الحقيبة، كونها سبق أن شغلتها في حكومات سابقة، من خلال الوزير إبراهيم نجار.

وفي وقتٍ يحاول هؤلاء الإيحاء بأنّ الخسارة "القواتية" ليست بالحجم الذي يتمّ تصويره، خصوصاً أنّ "القوات" فرضت في النهاية الحصول على الحدّ الأدنى، ومنعت سيناريو "إحراجها لإخراجها" الذي اعتمده الكثيرون، مشدّدين على أنّ مجرّد وجودها في الحكومة هو "ربحٌ" خصوصاً أنّ البعض كان يريد إخلاء الساحة لنفسه لأنّه يدرك أنّها لن تكون "شاهد زور" على أيّ صفقاتٍ أو سمسرات يمكن أن تحصل داخل ​مجلس الوزراء​، ثمّة في المقابل من يتحدّث عن أخطاء ارتُكِبت من جانب قيادة "القوات" في إدارة الملفّ الحكوميّ، سواء من خلال رفع الأسقف وتضخيم الطلبات، أو من خلال الإيحاء بتقديم التنازلات المجانيّة، ما أوصلها إلى هذا الواقع، وهو ما يفترض أن يخضع لمراجعة وإعادة نظر في المرحلة المقبلة تفادياً لتكراره والوقوع في فخّه مجدّداً في المستقبل.

إلى العمل دُر

قد تعتبر "القوات" نفسها رابحة بمجرّد صمودها في الحكومة رغم كلّ "الترغيب والترهيب" الذي خضعت له لإخراجها من البازار الحكوميّ. وقد يعتبر "التيار الوطني الحر" نفسه رابحاً، من خلال "تحجيم" المطالب "القواتيّة"، ومنحها "الفتات" وليس أكثر من ذلك.

وبين هذا وذاك، قد يعتبر الكثيرون أنفسهم "رابحين" من خلال الحصول على مقعدٍ بالزائد هنا، أو إقصاء خصمٍ هناك، وقد ينتفض آخرون ضدّ "إقصائهم" و"عزلهم" وغير ذلك، من دون أن يلتفت أحد لهدر أشهرٍ قبل الوصول إلى "تسوية" كانت ممكنة منذ اليوم الأول.

إزاء ذلك، قد يكون المطلوب اليوم بدل التلهّي في احتساب الربح والخسارة من حصص وأحجام، سواء جاءت منتفخة أو مخفضة، الإسراع في التأليف والانكباب على العمل، لأنّ الاستمرار في المماطلة والتسويف لن يفيد أحداً على الإطلاق...