شكل قتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي في داخل القنصلية السعودية في أنقرة على أيدي فريق أمني سعودي قدِم من الرياض إلى أنقرة خصيصاً لتنفيذ هذه الجريمة في الموعد الذي دخل فيه خاشقجي القنصلية بناء على موعد مسبق أعطي له للمراجعة بخصوص الحصول على أوراق شخصية، شكل في توقيته فرصة ذهبية للرئيس الأميركي دونالد ترامب جاءته على طبق من فضة.. فليس هناك أفضل وأحسن وأهمّ من هذه الفرصة التي تحقق للرئيس الأميركي، الشاطر في كيفية ابتزاز حكام في السعودية، الملك سلمان وولي عهده محمد بن سلمان، الحصول على ما يريده من الأموال السعودية عشية الانتخابات النصفية الأميركية…

فالجريمة لم تستطع الرياض إخفاء معالمها وطمس أدواتها، لا سيما أنّ السلطات التركية امتلكت معلومات موثقة وصوراً وتسجيلات صوتية تكشف أنّ خاشقجي قد تمّ قتله داخل القنصلية بعد دقائق على دخوله إليها على ايدي الفريق الأمني السعودي… ومع ذلك تريّثت السلطات التركية في الكشف رسمياً عن تفاصيل حصول الجريمة بانتظار إنجاز التحقيقات من ناحية، ونتائج الاتصالات الرسمية الأميركية التي باشرها وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو مع المسؤولين السعوديين وإطلاع المسؤولين الأتراك على نتائجها… وهو ما يشير إلى التحضير والإعداد لصفقة إخراجية تأتي نتائج التحقيقات الجارية في أنقرة من قبل فريقي التحقيق التركي والسعودي لتتناغم معها، وتقدّم مسؤولين في القنصلية والفريق الأمني السعودي أكباش فداء بتحميلهم مسؤولية ارتكاب الجريمة، وأنهم أقدموا على فعلتهم من دون علم الملك سلمان وولي عهده محمد بن سلمان.. وإنما بتوجيه من أحد المسؤولين في الاستخبارات السعودية.. أو يكون الإخراج بأنّ خاشقجي لاقى حتفه نتيجة خطأ تمثل في إعطائه كمية مخدّر زائدة وهو ما أدّى إلى ارتباك الفريق الأمني والمسؤولين في القنصلية فسارعوا الى العمل على التخلص من جثته..

بغضّ النظر عن أيّ من الروايتين سيجري اعتمادها حسبما ذكرت الصحافتين الأميركية والتركية، إلا أنه من الأكيد أنّ التركيز الأميركي السعودي ينصبّ على طريقة الإخراج والصفقة التي ترافق ذلك لتبرئة الملك سلمان وولي عهد محمد من أيّ مسؤولية، عبر تحميلها لبعض الأشخاص.. هذه العملية الصفقة الإخراجية يبدو أنها قد سلكت طريقها للتنفيذ عبر زيارة بومبيو لكلّ من الرياض وأنقرة، وبدء فريق التحقيق التركي عملية البحث عن الأدلة الجرمية في القنصلية السعودية ومنزل القنصل السعودي في أنقرة.. وقد مهّد لهذه الصفقة الرئيس الأميركي عندما تحدث عن أنّ «مجموعة مارقة» و»غير منضبطة» قد تكون وراء قتل خاشقجي، وانّ الملك سلمان أكد له و»بشكل حازم أنه لم يكن على علم بأيّ شيء».

وقد سبق مثل هذا التصريح للرئيس الأميركي إعلان تمسّكه بالعلاقة مع الرياض وحرصه على إتمام صفقة السلاح معها بقيمة 110 مليارات دولار، حتى ولو تبيّن أنّ العائلة المالكة في السعودية وراء مقتل خاشقجي.. وقال انّ عدم إتمام الصفقة وفرض عقوبات على السعودية يعني أن تذهب الـ 110 مليارات إلى روسيا أو الصين..

على أنّ تبرئة سلمان ونجله تشكل بالنسبة الى ترامب فرصة ثمينة جاءته على طبق من فضة في الوقت المناسب، وهو الذي يحسن استغلال الفرص وتوظيفها في سياق ابتزاز المزيد من الأموال ممّن يؤمّن لهم الحماية، وفي الطليعة الحكومة السعودية، وهو مارس التهديد العلني تجاههم عندما قال إنهم لا يستطيعون البقاء في الحكم أسبوعين إذا ما توقفت أميركا عن حمايتهم.. فكيف الآن بعد أن امتلك ترامب أيضاً ورقة إدانة أو تبرئة الملك وولي عهده من جريمة قتل خاشقجي..

إذاً شكل قتل خاشقجي أكبر خدمة للرئيس الأميركي للحصول على ثمن كبير مقابل الموافقة على تسويق صفقة إخراجية لدى تركيا تقضي بتبرئة حكام السعودية، على انّ بدء اتصالات بومبيو في السعودية قبل تركيا إنما هو للاتفاق على بنود الصفقة والثمن الذي سيدفعه ابن سلمان لواشنطن لقاء قيامها بدور تسويق هذه الصفقة وإقناع أنقرة بالموافقة عليها.. وطبعاً موافقة سيكون لها أيضاً ثمن سيدفع الى أنقرة… والأكيد أنّ ابن سلمان لن يتوانى عن تقديم كلّ ما يطلبه ترامب، عبر وزير خارجيته، لحماية نفسه من الاتهام والإدانة، وضمان بقائه في السلطة.. وهذا يحقق لترامب هدفين أساسيين يسعى إليهما:

الهدف الاول: الحصول سريعاً على المزيد من الأموال وحصة من نفط السعودية، وما مسارعة ابن سلمان إلى إرسال مائة مليون دولار بالأمس إلى البيت الأبيض، كان قد طلبها ترامب للتخفيف من الأعباء الأميركية في شمال سورية… إلا مؤشر على ذلك، الأمر الذي يساعد ترامب وحزبه الجمهوري على تعزيز شعبيتهما عشية الانتخابات الأميركية النصفية.

والهدف الثاني: تحويل ابن سلمان إلى رهينة بيد واشنطن التي تستطيع أن تحصل منه على ما تريد بسهولة، ليس فقط من الناحية المالية والنفطية، وإنما أيضاً لناحية دفعه إلى اتخاذ خطوات عملية علنية على صعيد العلاقات السعودية «الاسرائيلية» ودعم سياسة ترامب لتصفية القضية الفلسطينية في إطار «صفقة القرن».. ويبدو أنّ اللقاء العلني الذي جمع رئيس أركان الجيش السعودي ورئيس أركان الجيش الصهيوني في واشنطن على هامش اجتماع قادة جيوش عدد من الدول إنما يشكل في توقيته دليلاً على السلوك السياسي للنظام السعودي في المرحلة المقبلة…

النتيجة المتوخاة أميركياً من تسويق صفقة إخراجية بشأن قتل خاشقجي تقود الى تبرئة الملك سلمان وولي عهده من دمه، هي تعميق تبعية النظام السعودي للولايات المتحدة وجعل ثروات السعودية في باطن الأرض وفوقها لتكون تحت تصرف ترامب لزيادة عملية النهب الأميركي لثروات أبناء الجزيرة العربية على نحو غير مسبوق منذ تاريخ نشأة العلاقة بين الرياض وواشنطن عام 1945 على اثر الاتفاق الشهير بين الرئيس الأميركي روزفلت والملك عبد العزيز، والذي قام على قاعدة ضمان الأمن لحكم آل سعود مقابل حصول أميركا على نفط السعودية…!