بعدما يزيد على الخمسة أشهر من تكليف الرئيس ​سعد الحريري​ تشكيل ​الحكومة​ ال​لبنان​ية ​الجديدة​، و​العراق​يل المحلية والخارجية التي كانت تقف في طريق تأليفها، فجأة انطلق قطار التشكيل وتبدّدت الأجواء السلبية التي كانت سائدة وحلّت مكانها الأجواء الإيجابية التي سرعان ما ترافقت مع سرعة في الاتصالات السياسية على خط إنجاز الاتفاق على التشكيلة الحكومة وتوزيع الحصص الوزارية وتذليل العقد الواحدة تلو الأخرى، والتي كان يُقال إنها عقد صعبة ولا يمكن تجاوزها.. وإذا كانت هناك من بعض الأمور التي لا تزال بحاجة إلى تذليل فهي مجرد تفاصيل بسيطة مرتبطة بطبيعة الوزارات التي ستعطى لـ «القوات اللبنانية» ولـ «المردة»، سوف يجري الاتفاق على حلها..

على أنّ السؤال الأساسي هو: ما الذي استجدّ حتى أقلع قطار التأليف وجرى تذليل العقد المحلية بهذه السرعة؟

المتابع للتطورات والصعوبات التي تعترض عملية ​تشكيل الحكومة​ طوال الأشهر الماضية يلحظ بأنّ المطالب التي كانت توضع من قبل «القوات اللبنانية» و​الحزب التقدمي الاشتراكي​ و​تيار المستقبل​ كانت مطالب مضخمة، مترافقة مع حملة تصوّر أنّ لبنان على وشك انهيار مالي واقتصادي إذا لم تشكل الحكومة وتتمّ الموافقة على هذه المطالب، وبلغ الأمر حدّ التهويل من تسلّم ​حزب الله​ وزارة الصحة… وكانت الغاية من كلّ ذلك محاولة تحقيق أمرين:

الأمر الأول: تبرير موقف فريق ​14 آذار​ في سعيه إلى تعطيل تشكيل الحكومة على أساس نتائج ​الانتخابات​ النيابية التي جاءت في غير مصلحته، حيث أدّت إلى خسارته الأغلبية النيابية التي كانت تمكّنه من الحصول على أغلبية الحقائب الوزارية.

الأمر الثاني: التغطية على السبب الحقيقي الذي يقف وراء تعطيل تأليف الحكومة وهو الفيتو الأميركي الغربي السعودي الذي أراد رهن تشكيل الحكومة بالتطورات في المنطقة.. لا سيما أنه كان هناك رهان من قبل ​الرياض​ و​واشنطن​ وباريس على حصول متغيّرات في العراق وسورية و​اليمن​ تخلّ بتوازن القوى لمصلحتهم بما يمكنهم من توظيف ذلك في الساحة اللبنانية لإحداث انقلاب على نتاىج ​الانتخابات النيابية​ عبر فرض تشكيل حكومة وفق توازن القوى السابق على الانتخابات، وبالتالي إبقاء هيمنة فريق 14 آذار على القرار السياسي، أو أقله فرض تسوية فوقية تعطيه حصة وزارية مساوية للفريق الوطني و​التيار الوطني الحر​…

غير أنّ هذه المحاولة ووجهت بالرفض من قبل الفريق الوطني والتيار الوطني الحر، ولهذا كان قرار تشكيل الحكومة وفق نتائج الانتخابات مرهون برفع الفيتو الخارجي الأميركي الفرنسي السعودي.

الجميع اليوم يقرّ بأنّ هذا الفيتو قد رُفع وانّ الإشارة الفرنسية بضرورة الإسراع في تشكيل الحكومة كانت أيضاً بموافقة أميركية وفي ظلّ انشغال سعودي في لملمة تداعيات قتل خاشقجي داخل القنصلية ​السعودية​ في ​اسطنبول​.. وأنّ عملية التشكيل لم تتجاوز كثيراً نتائج الانتخابات.. فما الذي أجبر واشنطن وباريس على رفع الفيتو وإعطاء الموافقة على تأليف الحكومة وفق توازن القوى الذي أفرزته الانتخابات النيابية الأخيرة؟

الواضح أنّ هناك ثلاثة تطورات مهمة وجوهرية تقف وراء رفع الفيتو وتفسّر تكيف واشنطن وباريس مع موازين القوى في لبنان، وهذه التطورات هي:

أولاً: فشل محاولة الانقلاب الأميركية في العراق لإعادة تعويم الهيمنة الأميركية على مفاصل القرار العراقي وتهميش دور ​القوى الوطنية​ و​المقاومة​ لهذه الهيمنة والساعية الى تحرير العراق منها، وتجلى هذا الفشل في إخفاق واشنطن والقوى الموالية لها في إنتاج تحالف نيابي يقود إلى انتخاب رئيس للجمهورية وتكليف رئيس لتشكيل الحكومة من المؤيدين لبقاء ​القوات الأميركية​ في العراق وتكريس التبعية للسياسة الأميركية، حيث تمخض الصراع الذي احتدم على إثر أحداث ​البصرة​ المفتعلة أميركياً، عن تبدّل في التحالفات وتشكل أغلبية نيابية عمادها تحالف «سائرون» بقيادة ​التيار الصدري​ وتحالف «فتح» المكوّن من قوى ​الحشد الشعبي​، وبالتالي انتخاب ​برهم صالح​ رئيساً للجمهورية وتكليف ​عادل عبد المهدي​ لتشكيل الحكومة، وهو من خارج الفريق الموالي لواشنطن، مما شكل صفعة موجعة للخطة الأميركية تتوّج هزيمة داعش الذي سعت واشنطن لاستخدامه مظلة لاستعادة نفوذها وهيمنتها على العراق بعد أن خرجت قواتها المحتلة منه عام 2011 مهزومة على وقع ضربات المقاومة من دون أن تتمكّن من فرض شروطها في الاتفاقية الأمنية..

ثانياً: تعمّق مأزق الفشل الأميركي الصهيوني التركي في سورية، نتيجة انتصارات ​الجيش السوري​ وحلفائه على القوى الإرهابية من ناحية، وتزايد القدرات الردعية لسورية في مواجهة العدوانية الصهيونية الأميركية التركية من ناحية ثانية.. وتجلى ذلك في الاتفاق الروسي التركي على إنهاء وجود القوى الإرهابية في إدلب، وفي إقدام ​روسيا​ على تسليم سورية منظومة ​صواريخ​ «أاس 300» المتطورة ومنظومة السيطرة والتحكم ومنظومة التشويش على ​الرادارات​ والأقمار الاصطناعية مما أحدث تحوّلاً نوعياً في ميزان القوى ووجّه رسائل ردعية للدول المعادية لسورية، وجاء هذا التطوّر المهمّ كردّ روسي على غدر الطائرات الصهيونية المعتدية على مدينة اللاذقية الذي أدّى إلى سقوط الطائرة الروسية «إيل 20» واستشهاد من كانوا على متنها.. وقد نتج عن ذلك لجم العدوانية الصهيونية وإضعاف قدرة ​أميركا​ على ابتزاز ​الدولة السورية​ بتنازلات مقابل سحب القوات الأميركية من سورية، وتعزيز موقف سورية في الدفاع عن سيادتها ووحدة أراضيها ورفض ايّ تنازل يمسّ استقلالية قرارها الوطني.. وقد جاء فتح ​معبر نصيب​ بين ​الأردن​ وسورية واللقاء الذي جمع وزيري الخارجية السوري والبحريني بمثابة مؤشر على توجه أميركي بالتكيّف مع موازين القوى الجديدة والتسليم بفشل أهداف الحرب الإرهابية الاستعمارية التي قادتها واشنطن ضدّ سورية.

ثالثاً: ازدياد غرق النظام السعودي في وحول حربه العدوانية على اليمن وتدهور وتراجع دوره عربياً وإسلامياً بفعل فشله المتزايد في تحقيق أيّ من أهدافه وارتكاب المجازر الوحشية بحق الشعب العربي اليمني، وتنامي قلق واشنطن من أن تؤدّي هذه الحرب إلى تحوّل اليمن إلى ​جنوب لبنان​ آخر تسيطر عليها القوى الوطنية التحرّرية الرافضة للهيمنة الأميركية وتشرف على ساحل ​البحر الأحمر​ و​باب المندب​..

هذه التطورات المستجدة هي التي يمكن أن تفسّر لنا مسارعة واشنطن وباريس إلى رفع الفيتو من أمام تشكيل الحكومة اللبنانية لأنّ الرهان على متغيّرات في المنطقة لمصلحتهما لم يعد ممكناً، وانّ تأليف الحكومة الآن أفضل من الاستمرار في تأخيرها…