سألت ​إلهام سعيد فريحة​ على صفحة "الأنوار" الأخيرة: من الورق إلى الأونلاين ماذا بعد؟ ويسأل التعب نفسه: هل من نهاية؟

تعيدنا أسئلة التعب سيّدتي حول النهاية مجدداً الى مقام الفلسفة في بلاد الإغريق. كنّا نعتبرها مالكة عرش ​العلوم​ وقد حاشرتها علوم الصحافة والإعلام وصدّقنا أنفسنا عندما قلنا بأن الفلسفة سقطت تحت جلالة الكتابات الصحافية. ماتت لغة سقراط وأرسطو وإفلاطون على يدّ باباندريو، وسقطت قباب أثينا وأعمدتها لردم الطرق البريّة للروّاد السائحين نحو جزرها السياحية النائية. ويسقط ​لبنان​ بين أيدي أبنائه تقليداً لأثينا.

أمّا الخروج من الورق إلى الأونلاين فسوق يتماهى فيه صغار المحررين والمصححين المسجّلين أجراء في ​قانون العمل​ اليوم بأصحاب الصحف ورؤوساء التحرير الذين تماهوا بالملوك والسلاطين والأمراء.

كيف؟ يؤسسون صحفهم ومواقعهم ويلعبون الأدوار التي حلموا بها في الصحف المكتوبة.

تنقلب طريقة قراءة الأخبار والمقالات والعادات التي درج عليها أهل الصحافة. وبات إنشاء المواقع على الانترنت حاجة يبدو معها أصحاب الصحف الآخرين يقفون في الصف في قاعة الانتظار يبحثون عن مواقع لهم في ​الصحافة الالكترونية​.

تنقل النصوص المختصرةمزدانة بالصور والرسائل الصوتية بهدف التزاحم لخلق نوعٍ من التفاعل الوهمي مع المبحرين أو المشتركين بها. لقد تخلّت مجمل المواقع الإلكترونيّة عن استعادة النسخ المطبوعة بعد أن بات لدينا في كليّة الإعلام الأعداد الوفيرة التي تهندس معظم الصحف على شكل هيئات تحرير مختصة بالكتابة الإلكترونية بحيث تزول معها الفواصل بين الصحافة المكتوبة والمرئية والمسموعة، الأمر الذي قلب مناهج التعليم وطرائقه في الجامعات وخصوصاً في كليات الاعلام الضائعة.

كانت "النيويورك تايمز" أول من قام بنقل طبعته إلكترونياً في العالم، وكانت "النهار" السباقة في لبنان في الطلوع على الانترنت وفقاً لهذه الطريقة، وتبعتها صحف لبنانية أخرى ولكن الهزال يعتريها كلها.الكاتب والقارئ معاً في فضاء من الكتابية بلا حدود وشروط. ويعتبر انقلاب السلطات أو تبادلها بينهما من الأدوار التي تلعبها الصحافة الإلكترونية، إذ يغدو المتلقي "ساكناً" يتعامل مع الطبعة الاعلامية وكأنّها وسيلته الخاصة (هذا إن لم يكن له وسيلته الخاصة بعد) تمنحه سلطات يستطيع أن يمارسها عن طريق اشتراكه بالتحرير أو بالانتقاد، أي يصبح فاعلاً ومنفعلاً ومرسلاً جديداً يقلق المرسل الأساسي، ويكمّله أو يدحضه، وهذا ما يمنح البريد الإلكتروني، كما نشهد في هذا العصر، إقبالاً أو سلطة عالميّة.

تتحلّى الصحافة الإلكترونية، إلى جانب توفيرها المعلومات الجاهزة الموضّبة، ووصولها إلى العدد الأكبر من القرّاء، بالسرعة في البث. وإذا كانت السرعة سمة الأخبار تشغل الصحفيين، فإنّها غدت هي الخبر أو الحدث والخطر في حدّ ذاته.

وبسبب من هذه السرعة التي تنجز الكترونية الأخبار، مهما علت حواجز اللغة والممنوعات الثقافية، فإنّها صفة تنسف مجمل ما ألفناه في الوسائل التقليديّة الخبريّة، كما تلتصق بمضامين الأخبار التي تعمّم فتنجز أوسع ثورة في تاريخ الخبر.

أعطيك مثالاً:

جاءت فضيحة العلاقة، مثلاً، بين الرئيس الأميركي السابق ​بيل كلينتون​ والمتدرّبة في البيت الأبيض مونيكا لوينسكي لتحدث هزّةً سياسيّة كبرى في ​الولايات المتحدة الأميركية​، وفي العالم، وتحقق مدى قدرات الخبر الضوئي السريع. فخلال شهر شباط العام 1997، قامت صحيفة Le Drudge report على الانترنت وهي جريدة إلكترونية، بنشر تفاصيل هذه العلاقة في الوقت الذي كانت فيه صحيفة مرموقة وذائعة الصيت مثل "نيوزويك" صاحبة السبق الصحفي تاريخياً تتأكد وتتوثق من مصادر خبرها وتستقي المعلومات الوافية قبل نشرها. وبهذا كسرت الصحيفة الضوئية قواعد اللعبة التقليديّة المعهودة في الصحافة.

التحدّي المطروح الآن يتعلّق بسلطات هذا الخبر الضوئي السريع: كيف نوفق بين التدقيق في مصادر المعلومات ومصداقيتها وبين تحقيق السرعة الضوئيّة في البث؟

بالطبع على حساب اللغة والمضمون، إذ تتضاعف الخطورة، ونعاين نوعاً من التساهل الفاضح في مقتضيات النشر، وهو تساهل ملموس في اللغة البرقية الركيكة تحت وطأة البث السريع. لا تعود المعلومات المعروضة على الشاشة كلّها صحيحة، ولا مصداقية ثابتة لتفاصيلها، أو هي بحاجةٍ إلى تدقيق كبير.

هكذا تلتحق صفة الخطورة بصفات العشوائية والمشاعية والصدفة وتشكّل مجتمعةً سمات المعلومة أو الخبر الضوئي المعاصر. وتكون النتيجة دفق الإشاعات، وتلويث المعلومات وقتل اللغة ، لأنّ الصحافة وقعت في سباق حافل بالتشوّهات مع الزمن.

نفهم، بهذا، أسباب الأهمية التي ما زالت تكابر بها صحف لا مواقع لها على الشاشة، يتوخى أصحابها بذلك الحفاظ على قرّائها ومشتركيها وسلطاتها غير عابئين بالسرعة، ويضعونها في مراتب عالميّة مرجعية، رافضين، أساساً، بثّ أي من مضامينها على الانترنت قبل صدورها.

إنّها الصحافة الباحثة في العمق أبداً عن مدى صحة المعلومات وتصويبها وتُعتبر وكالة "رويتر" (Reuter) العالميّة النموذج المثالي لهذا التوجه في الصحافة المحكوم قطعاً بالموت