في عزّ موجة التفاؤل الأكبر على الإطلاق بتأليف الحكومة الأسبوع الماضي، وفيما كانت كلّ المعطيات توحي بأنّ "​القوات اللبنانية​" ستكون "الخاسر الأكبر" فيها مقارنة بما كانت تطالب به من سقوف مرتفعة، خرج رئيس حزب "القوات اللبنانية" ​سمير جعجع​ ليطلق معادلة "يضحك كثيراً من يضحك أخيراً".

فجأة، عادت الأمور إلى المربّع الأول. تصلّبت "القوات" ورفضت المعروض عليها، مطالبة بـ"حقها" في حقيبة "وازنة"، أصرّت على أن تكون "العدل" أو ما يوازيها. وكانت النتيجة، أنّ رئيس الحكومة المكلّف ​سعد الحريري​ لم يستطع الوفاء بـ"وعده" تشكيل الحكومة قبل نهاية الأسبوع، بعد تمديد المهلة التي كان قد قطعها على نفسه للتأليف.

اليوم، وبمعزل عن المشاورات المكوكية والمكثفة التي نشطت في محاولة لإعادة إحياء التفاؤل، وعدم ترك الأمور تنهار من جديد، ثمّة علامات استفهام تُطرَح عن خلفيّات ما حدث، داخلية كانت أم خارجية، ولكن قبلها وبعدها، عن حقيقة وجود استهداف "قواتي" لـ"العهد" تعبّر عنه المفاوضات الحكوميّة خير تعبير...

استهداف للرئيس؟!

صحيحٌ أنّ "القواتيين" يقولون إنّ حقيبة "العدل" التي يتمسّك بها ​رئيس الجمهورية​ ​ميشال عون​ من ضمن حصّته لاعتباراتٍ وحساباتٍ كثيرة، أتت في سياق "عرضٍ" قدّمه لهم رئيس الحكومة المكلّف، بمعزل عمّا إذا كان الأخير بادر إليه بـ"اجتهاد ذاتي" أو بالتنسيق مع الرئيس عون، إلا أنّ "​التيار الوطني الحر​" لا يقرأ التمسّك بهذه الحقيبة، بعد التنازل الذي قدّمه رئيس الجمهورية لـ"القوات" في موضوع نيابة رئاسة الحكومة، إلا في إطار "الاستهداف المتواصل" لـ"العهد".

لا تقتصر المقاربة "العونيّة" في هذا الإطار على الصراع الأخير حول "العدل"، بل تعود إلى المفاوضات الحكوميّة، بمحطّاتها المختلفة. قبل أن يُكلَّف رئيس الحكومة ويبدأ مهمّته، وضعت "القوات" عينها على موقع نائب رئيس الحكومة، المحسوب عرفاً ضمن حصّة رئيس الجمهورية، باعتبار أنّ نيابة رئيس ​مجلس النواب​ ذهبت إلى تكتل "لبنان القوي"، على الرغم من أنّها خاضت المعركة بمرشح منافسٍ هو النائب ​أنيس نصار​، مشدّدة على أنّ موقع نيابة رئيس الحكومة بات لها بموجب "مناصفة" قالت إنّ تفاهم ​معراب​ بين الطرفين نصّ عليها.

أما المعركة الثانية التي خاضتها "القوات" فكانت المعركة على الحقيبة السياديّة. هنا، كانت مطالبة "القوات" محصورة بحقيبتين، هما الدفاع المحسوبة أيضاً من حصّة رئيس الجمهورية، والخارجية المحسوبة من حصّة "التيار الوطني الحر" بدرجةٍ ثانيةٍ لعلمها بوجود "فيتو" في مكانٍ ما على استلامها هذه الحقيبة، ولو نفى الجميع علناً ذلك. لم تطالب بحقيبة المال مثلاً التي طالب بها رئيس مجلس النواب ​نبيه بري​، ولا بحقيبة الداخلية التي ذهبت إلى رئيس الحكومة، رغم أنّها تعتبره "حليفاً"، ما يجعل أيّ "مقايضة" بينهما ممكنة.

وإذا كان صحيحاً أنّ هناك معايير أخرى تتحكّم بتوزيع الحقائب السيادية على غرار التوزيع الطائفي، فإنّ "العونيّين" يسألون عن سبب مطالبتها إذاً بحقيبة سياديّة هي من حصّة رئيس الجمهورية، وليس فقط بتلك المحسوبة على "التيار الوطني الحر"، علماً أنّ المنطق يفترض أنّ الأخير أحقّ منها بحقيبة المسيحيّين، باعتبار أنّه التكتل المسيحي الأكبر، تماماً كما ذهبت الحقيبتان الأخريان لأكبر تكتلين سنياً وشيعياً. وربطاً بهذا الاعتراض، يضع "العونيون" إثارة "القوات" مراراً وتكراراً مسألة "حصة رئيس الجمهورية" في الحكومة في إطار "استهداف العهد"، بعدما كانت "القوات" هي المدافعة دوماً عن هذه الحصّة، بل تصرّ اليوم على اعتبار نفسها من المدافعين عن الرئيس ومقامه.

"بروفا" للآتي

في الأسبوع الماضي، برزت ملامح "تسوية" يمكن أن توصل إلى ولادة الحكومة، من دون إقصاء "القوات"، ولا كسر رئيس الجمهورية. تنازل الأخير عن نيابة رئاسة الحكومة، مطلب "القوات" منذ اليوم الأول، رغم أنّ كثيرين لاموها عليه باعتبار أنّ المنصب "معنوي" و"شرفي" من دون صلاحيّات مهمّة، وكان لـ"القوات" ثلاث حقائب إلى جانبه.

وقبل أن تسير "القوات" بـ"التسوية"، بدأ الحديث عن "خسارتها" حكومياً، لأنّها رفعت سقفها عالياً منذ اليوم الأول، ولم تحصّل في النهاية إلا "الفتات" من الحقائب. هنا، انتفض "القواتيون" من جديد، مطالبين بـ"حقهم" في حقيبة أساسيّة وازنة، نظراً لحيثيّتهم التمثيلية والشعبية التي ثبّتتها ​الانتخابات النيابية​ الأخيرة.

يعتبر كثيرون، و"العونيّون" من بينهم، أن لا غبار على هذا الكلام، كون الانتخابات أعطت "القوات" التكتل المسيحي الثاني من حيث الحجم بعدهم. لكنّ الإشكالية التي لا يجدون لها تفسيراً، أنّ عين "القوات" لم تكن هنا سوى على حقيبة من حصّة رئيس الجمهورية، هي "العدل". ويستغرب "العونيون" عدم مطالبة "القوات" مثلاً بحقيبة الأشغال التي يصرّ عليها تيار "المردة" رغم أنّها يفترض أن تكون من حقّها.

أكثر من ذلك، يتوقّف "العونيون" عند "مفارقة" تخلّي "القوات" عن العديد من الحقائب لصالح فرقاء آخرين، مثل "​الصحة​" التي كانت من حصتها لـ"حزب الله"، رغم احتفاظ معظم الأفرقاء بحقائبهم من دون تغيير، وكذلك "التربية" التي قيل إنّها ستُسنَد إليها لصالح "​الحزب التقدمي الاشتراكي​"، بل إنّ التسريبات أكّدت استعدادها للتخلّي عن "الشؤون الاجتماعية" أيضاً إذا صحّ أنّ رئيس مجلس النواب نبيه بري يريدها.

انطلاقاً من كلّ ما سبق، ثمّة خشية حقيقيّة لدى "العونيّين" من أن يكون ما حصل في المفاوضات الحكوميّة مجرد "بروفا" للمرحلة المقبلة، أي ما بعد تأليف الحكومة، بمعنى أن يستمرّ مسلسل استهداف "العهد"، من خلال تصويب وزراء "القوات" على وزراء "العهد" في حصّتي رئيس الجمهورية و"التيار الوطني الحر"، مع ما يمكن أن يعنيه ذلك من تشويش على عملهم وضرب للإنتاجيّة، في وقت يريد "العهد" أن تكون الحكومة حكومة عملٍ بالدرجة الأولى، بعيداً عن أيّ "معارضة داخلية" من هنا أو هناك.

بانتظار "التسوية"

لا شكّ أنّ "التسوية" ضروريّة في نهاية المطاف لتولد الحكومة، بعدما صار ثابتاً وأكيداً أنّ لا حكومة يمكن أن تُشكَّل من دون "القوات"، بقرارٍ من رئيس الحكومة أولاً، وأنّ رئيس الجمهورية لن يتنازل أكثر، وتحديداً عن حقيبة "العدل".

وبانتظار نضوج هذه "التسوية"، وسقوط "العقد" التي تحول دون ولادة الحكومة، القديمة منها والجديدة، في ظلّ من يعتبر أنّ السبب "خارجي" بالدرجة الأولى وليس "داخلياً" كما يروَّج، يبقى المطلوب أن يقتنع الجميع بأنّ كلّ الخلافات يجب أن تنتهي مع تأليف الحكومة، حتى لا تتحوّل نفسها إلى حلبة متاريس، لا مكان فيها للإنتاجية الفعليّة، تماماً كغيرها من الحكومات السابقة...