في الشكل إنّ سبب التصعيد الأمني الأخير بين إسرائيل من جهة و"حركات المُقاومة الفلسطينيّة" في غزّة من جهة أخرى، يعود إلى قرار بالردّ على مجازر ​الجيش الإسرائيلي​ بحقّ المُتظاهرين الفلسطينيّين العُزّل الذين يشاركون في "مسيرات العودة". لكن في المَضمون إنّ ما يحصل هو عبارة عن صواريخ تحذيريّة-إذا جاز التعبير، تحمل رسائل إستراتيجيّة.

وفي هذا السياق، لا بُدّ من الإشارة إلى أنّه وعلى الرغم من الرفض العلني المُتواصل لما يسمّى "صفقة القرن" التي تعمل إدارة الرئيس الأميركي ​دونالد ترامب​ على فرضها في المنطقة، فإنّ المُفاوضات وحتى الضُغوط بشأنها قائمة على غير صعيد بعيدًا عن الأضواء، وذلك بهدف تذليل العقبات التنفيذية من أمامها، تمهيدًا لإيجاد التوقيت الأنسب لإعلانها. يُذكر أنّه في الأمور الإستراتيجيّة الكبرى، على غرار إتفاق السلام المُنشود بين الفلسطينيّين والإسرائيليّين، لا تُقاس الأمور بأشهر أو حتى بسنوات قليلة، لأنّ ما يُمكن التوصّل إليه سيترك آثاره المُباشرة على المنطقة لعُقود طويلة.

ومن ضُمن الدول العربيّة التي يُنتظر أن يكون لها تأثيرات كبرى على مُجريات "صفقة القرن"، ​سلطنة عمان​ التي تتمتّع بعلاقات جيّدة جدًا مع مُختلف الأطراف، والتي كانت قد قامت خلال السنوات الماضية بوساطات عدّة بعيدًا عن الأضواء في الحربين السوريّة واليمنيّة، وكذلك في ما خصّ الإتفاق النووي ال​إيران​ي مع الغرب. واليوم، تلعب سلطنة عُمان دورًا مؤثّرًا على خط الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، يعني عمليًا على خط ما يُسمّى "صفقة القرن". وزيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي ​بنيامين نتانياهو​ إلى السَلطنة ليست من باب الصُدفة، بل هي مُهمّة جدًا، خاصة وأنّ الأخير حرص على أن يُرافقه وفد رفيع من كبار المسؤولين الأمنيين ومسؤولي الإستخبارات والمسؤولين الدبلوماسييّن في إسرائيل(1). تذكير أيضًا أنّ سلطنة عُمان كانت لعبت نهاية القرن الماضي دورًا بارزًا في الإتفاقات التي أبرمت بين إسرائيل والسُلطة الفلسطينيّة آنذاك، وقد زارها أكثر من مسؤول إسرائيلي رفيع، لا سيّما إسحاق رابين في العام 1994، وشيمون بيريس في العام 1996، قبل أن تعود العلاقات وتتراجع، وتقوم سلطنة عُمان بإقفال مكاتب التثميل مع إسرائيل في العام 2000، إثر إندلاع الإنتفاضة الفلسطينيّة الثانية.

واليوم، وإنطلاقًا من النظريّة الأميركيّة التي تتحدّث عن أنّ حلّ النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي، والتوصّل إلى إتفاق سلام دائم وثابت بين الطرفين هو مسؤولية 22 دولة عربية، وليس مسؤوليّة ​الولايات المتحدة​ والدول الغربيّة فحسب، تعمل إدارة الرئيس ترامب على تسويق "صفقة القرن" عبر أكثر من طرف مؤثّر، ومن بينها سلطنة عُمان. إشارة إلى أنّ الإتفاق النهائي والدائم الذي تعمل واشنطن على تسويقه، يقضي بخطوطه العريضة بإقامة دولة فلسطينيّة ستستفيد من 10 مليارات دولار من المُساعدات الخارجيّة لإنشاء بنى تحتيّة كاملة، منها مطار ومرفأ ومصانع ومعامل وطرقات دوليّة، إلخ. ويقضي الإتفاق بأن تتنازل مصر عن مساحة مُحدّدة من سيناء حتى مدينة العريش لصالح الدولة الفلسطينيّة في مُقابل حُصولها على أراضٍ من إسرائيل جنوب غربي النقب وتحديدًا في منطقة وادي فيران، ومكاسب سياسيّة وإقتصادية كبرى، شأنها شأن كل من ​الأردن​ و​العراق​ وغيرهما. وتُحاول الإدارة الأميركيّة أن تؤمّن مكاسب لأكبر عدد مُمكن من الدول العربية لحملها على الضغط والمُساعدة في إتمام الصفقة التي لا تزال مرفوضة حتى تاريخه-أقلّه في العلن.

لكن وكما أسقطت إيران جولات التفاوض السابقة بين الفلسطينيّين والإسرائيليّين في نهاية القرن الماضي، من خلال توفير الدعم بالسلاح والمال لكل من حركتي "حماس" و"​الجهاد الإسلامي​"، إضافة إلى حثّهما على تصعيد الموقف الأمني مع إسرائيل لضرب الجُهود السياسيّة، رفضًا للحُلول المُنحازة لصالح هذه الأخيرة، يبدو أنّ التاريخ يُكرّر نفسه في المرحلة الحاليّة، بحسب أكثر من خبير غربي. وبرأي هؤلاء، إنّ إيران تجاوزت كل الخلافات التي ظهرت مع "الحركات الإسلاميّة الجهاديّة" في السنوات الماضية، لتعود وتُركّز البُوصلة على القضيّة الأساس، وهي قضيّة النزاع مع إسرائيل. وبالتالي إنّ الصواريخ التي أطلقت على إسرائيل في الساعات الماضية ليست عبارة عن ردّ فعل على مقتل فلسطينيّين كانوا يتظاهرون ضُد إحتلال القوات الإسرائيليّة لأراضيهم، إنّما هي عبارة عن رسائل تحذيريّة... لأهداف إستراتيجيّة، حيث ترمي إلى إعادة تفعيل حرب الإستنزاف بين الإسرائيليّين والفلسطينيّين، وبالتالي إلى إفشال أي مُحاولات سياسيّة جديدة للتوصّل إلى تسوية سلميّة، أكانت عبر سلطنة عُمان أو سواها. وختم هؤلاء الخُبراء كلامهم، بتوقّع المزيد من المُحاولات والمساعي والضُغوط الأميركيّة على العديد من الدول العربيّة لحثّها على دعم "صفقة القرن"، في مُقابل توقّع المزيد من المُحاولات الإيرانيّة-عبر قوى مدعومة منها، للتصعيد الأمني مع إسرائيل، منعًا لتحضير الأجواء لأي حلّ نهائي.

في الخلاصة، لا شكّ أنّ قضايا المنطقة الشائكة لم تعد في أيدي المعنيّين بها مُباشرة، حيث أنّ البحث خلال قمّة أسطنبول الأخيرة مثلاً تناول العديد من القضايا الرئيسة، مثل سُبل تطوير العمليّة السياسية في ​سوريا​، وتسهيل عودة النازحين الطوعيّة، وإطلاق لجنة صياغة الدُستور السُوري الجديد، إلخ. في ظلّ غياب أي من من المُمثلين عن الصراع في سوريا، وفي طليعتهم النظام السُوري ومعارضيه! وبالتالي، إنّ القمّة التي حضرها كل من الرئيس الروسي ​فلاديمير بوتين​ والرئيس الفرنسي إيمانيول ماكرون والمُستشارة الألمانيّة ​أنجيلا ميركل​، إضافة إلى رئيس الدولة المُضيفة أي الرئيس التركي ​رجب طيب أردوغان​، إتخذت قرارات مُهمّة بشأن سُوريا بشكل يؤكّد تدويل الأزمة بشكل كامل، حيث تُتخذ قرارات الحرب والسلم خارج الأراضي السُوريّة ومن دون أي مُشاركة سوريّة! والأمر نفسه تُحاول تطبيقه الإدارة الأميركيّة بالنسبة إلى القضيّة الفلسطينيّة، في حين تعمل إيران على مُواجهته.

(1) من بينهم مثلاً رئيس جهاز الموساد يوسي كوهين، ورئيس هيئة الأمن القومي مائير بن شبات.