أخشى أن يظنّ أحد أنّ كلّ هذا الصخب الإعلامي، وهذه التسريبات المدروسة في حجمها وتوقيتها، وكلّ هذه الادعاءات من قبل ​الإدارة الأميركية​ وأردوغان وحكّام ​أوروبا​، أن يظنّها نابعة من حرص على الحياة الإنسانيّة أو أسف على قتل الخاشقجي أو قلق على الطريقة الوحشيّة التي قد يكون عُومِل بها قبل مفارقته الحياة. فالمسؤولون الأميركيون جميعاً تحدثوا عن "موت خاشقجي" وهم يحسبون هذه الحادثة بما يمكن أن تدّر عليهم من أموال طائلة من حكم يريد أن يخلّص نفسه من فضيحة دوليّة، ويضمن لذاته الاستمرار. أما أردوغان فقد تحسنت الليرة التركيّة بعد أن عقد صفقات سريّة مع السعودية، ولكنّ ذلك لا يكفيه فهو يمارس أشدّ أنواع الابتزاز للولايات المتحدة وأوروبا والسعودية وفي جميع الملفات قيد ​النقاش​. وبهذا فإنّ ما أثبتته قضية الخاشقجي هو ذاته ما أثبتته الحرب على ​ليبيا​ والحرب على سورية والحرب على ​اليمن​ وهو أنّ هذه الأطراف ذاتها الخليجية والتركية والأميركية والأوربية تبيع وتشتري بحياة الناس وتفاوض وتبتزّ وتمارس الألاعيب السياسية على حساب حياة البشر وأمن البلدان واستقرارها. ولذلك علينا أن ندرس من لا يغادر المايكرفون يده ويتحدث عن معلومات سرّية وأخرى قيد الكشف وثالثة تتمّ دراسة تفاصيلها قبل الكشف عنها. كلّ هذا وسواه لا ينطلق أبداً من الاعتراض على جريمة طالت حياة إنسان في أسوأ مكان وزمان متوقعين ولا ينطلق أصلاً من الإيمان بقدسية حياة الإنسان، بل ينطلق من الأثمان التي يمكن جبايتها من وراء كلّ كلمة وصورة وكشف يظهر تفصيلاً تلو الآخر. والشيء ذاته تمّت ممارسته في الحرب على سورية، فمتى كشف أردوغان عن أنّ آلاف الشاحنات الأميركية المحمّلة بالأسلحة قد عبرت حدوده متجّهة إلى سورية؟ فقط عندما بدأت الضغوط الأميركية المتعلقة بإطلاق سراح القسّ تتضاعف على أردوغان أطلق سراح معلومات تدين ​الولايات المتحدة​ في الحرب على سورية رغم أنّ في هذا إدانة لحكمه أيضاً لأنّ شاحنات الأسلحة عبرت الحدود التركية وهناك قرار ​مجلس الأمن​ يقضي بمعاقبة الدول أو الأطراف التي تموّل أو تسلّح أو تسهّل عبور الإرهاب و​السلاح​ للإرهابيين. وعلّه من نافل القول أنّ لا أحد يعير وزناً لقرارات مجلس الأمن إلّا حين يترافق ذلك مع ممارسة القوّة، فهناك مئات القرارات التي تنصّ على إحقاق الحقوق لأصحابها الشرعيين ولكنّ أصحاب هذه الحقوق مازالوا يستشهدون كلّ يوم وهم عزّل يتلّقون ضربات محتلّ معتدٍ أثيم دون أن نسمع حتّى صوتاً يرتفع لنصرتهم والدفاع عن حقوقهم المشروعة. وبعد كلّ قرارات مجلس الأمن حول الإرهاب والإرهابيين، فقد عانى ​الشعب السوري​ من جرائم إرهابية بحقّ الأطفال والنساء والشيوخ، وحتى بحقّ الشجر والحجر من آثار وتحف حضارية، ومع ذلك فإنّنا مازلنا نشهد الأطراف ذاتها: الخليجية والتركية والأميركية والأوربية والتي كانت تطلق على نفسها اسم أصدقاء سورية ورتبت كلّ هذه الحملات الإرهابيّة على سورية وشعبها، مازالت تدعم الإرهاب ومموليه وداعميه من خلال الاستمرار في دعم هذه الأدوات الإرهابيّة التي تعمل على تقسيم البلد واستنزاف خيراته وإضعاف مقدراته في مواجهة العدو الصهيوني وأعداء الأمّة جمعاء. وقد أصبح من المعلوم للجميع أنّ استهداف ليبيا بتلك الطريقة الوحشية وتحويلها إلى دولة فاشلة كان بسبب ذهب ليبيا ونفط ليبيا والجشع للسيطرة على مقدرات ليبيا والليبيين والأسباب ذاتها وراء كلّ تواطؤ وتآمر وإرهاب وابتزاز، وقد تكون الأسباب مادية أو حضارية أو سياسية، فالهدف في ​العراق​ كان تدمير حضارته وثرواته ونهب نفطه، والهدف في سورية هو تدمير ​البنى التحتية​ والحضارية في سورية وأيضاً نهب ثرواتها وتدمير جذوة العمل العربيّ الحقيقي والدول التي تمثل القومية العربيّة تاريخياً وحضارياً.

أما حربهم على اليمن، فقد فاقت كلّ أنواع الوحشية وعدم الاعتبار أبداً لحياة البشر، فما هو الذنب الذي ارتكبه الشعب اليمني البريء والبطل كي يستحقّ كلّ هذا القتل والتشريد، وكلّ هذه ​الأمراض​ والأوبئة دون أن يتحرك العالم الذي يدّعي حرصه على الإنسان والإنسانية. إذا كان مسلسل الخاشقجي يدّعي الحرص على حياة شخص واحد فأين هي ملايين الأصوات التي ترتفع لتدافع عن حياة ملايين البشر في اليمن وأين هي منظمات ​الأمم المتحدة​ ومنظمات حقوق الإنسان وأين هي قرارات الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن وأين هي الأسباب التي يمكن أن يضعها أي طرف كمبرّر لكلّ هذا القتل والإجرام والإرهاب التي تتمّ ممارسته بحقّ شعب اليمن واليمنيين؟.

إذاً كلّ ما نشهده اليوم من مسرحية قضية قتل خاشقجي هو بازار سياسي واقتصادي من قبل أطراف اعتادت على الابتزاز والمبازرة حتى على حساب حياة البشر وعلى حساب أمن وسلامة البلدان والأوطان والجميع من هؤلاء الأطراف يرتبون حساباتهم وفق مصالحهم والفوائد التي تعود عليهم. قد تكون قضية الخاشقجي مفيدة لفهم كلّ ما قامت به هذه الأطراف ذاتها من اعتداءات وإجرام بحقّ العراق وليبيا وسورية واليمن. قد تكون قضية شخص مجهراً لفهم سياسات هذه الأطراف حيال دول وأمن وسلامة شعوب بكاملها.