لماذا استفاق «حزب الله» على سُنَّة 8 آذار في اللحظات الأخيرة من عملية تأليف الحكومة، بعدما تجاهل مطالبَهم على مدى أشهر مضت؟ ولماذا يصرّ «الحزب» على إشراك هؤلاء في الحكومة بأيِّ ثمن، حتى لو أدّى ذلك إلى وقوع خلاف مع حليفه المسيحي، الرئيس ​ميشال عون​، في مرحلة حسّاسة، وإلى تهديد الرئيس ​سعد الحريري​ بالاعتذار؟

منذ اليوم الأول، نشأ انطباع بأنّ الحكومة العتيدة ستتألّف - إجمالاً- من 3 أثلاث يسعى كل منها إلى امتلاك القدرة على فرض خياراته أو إسقاط الحكومة إذا اقتضت مصالحُه ذلك، من دون الحاجة إلى دعم القوى الأخرى:

الثلث الأول - 10 وزراء لفريق ​14 آذار​، «المستقبل» (6) و«القوات اللبنانية» (4). ولا يحتاج هذا الفريق إلى وزير إضافي ليستطيع إسقاط الحكومة. فبمجرد استقالة الحريري تسقط الحكومة، فيما الآخرون جميعاً يحتاجون إلى اجتذاب 11 وزيراً ليتمكّنوا من القيام بذلك. ففي المادة 69 من ​الدستور​، تسقط الحكومة إذا فقدت «أكثر من ثلث عدد الأعضاء المحدَّد في مرسوم تأليفها».

ولكن، ضمن هذا الثلث، يمتلك «المستقبل» «الفيتو» الميثاقي السنّي، ولو اقتضى التبادل بين عون والحريري أن يكون هناك أرثوذكسي للحريري وسنّي لعون في الحكومة. فالحريري قادر باستقالته من الحكومة، مع 5 وزراء سنّة، أن يُسقط الحكومة والميثاقية التوافقية في آن معاً.

- الثلث الثاني: 10 وزراء لرئيس الجمهورية (4) و«التيار الوطني الحرّ» (6). وهذا الفريق لا يمتلك «الفيتو» الميثاقي المسيحي، كما لا يمكنه إسقاط الحكومة بالثلث زائداً واحداً… إلّا إذا شاءت الظروف أن يختار رئيس الجمهورية الوزير الدرزي الثالث (التسوية بين جنبلاط وإرسلان) أقرب إليه. وبذلك، يصبح هذا الفريق مالكاً الثلث المعطل.

وبما أنّ هذا الفريق الوزاري يدعمه رئيس الجمهورية، فإنّ أيَّ تحالف يعقده الرئيس مع أيِّ قوة سياسية - وتحديداً الحريري- يصبّ في مصلحته. وهذا الاحتمال مرجَّح. فالحريري حافظ على تحالفه مع وزراء «التيار» داخل الحكومة السابقة، لا مع وزراء «القوات»!

- الثلث الثالث: 10 وزراء للثنائي الشيعي، الرئيس ​نبيه بري​ (3) و«حزب الله» (3) وجنبلاط (2) و«المردة» (1). وقد يضاف إلى هؤلاء الوزير الدرزي الثالث الذي دار حوله «الكباش» بين جنبلاط وإرسلان، وتمّ التفاهم على أن يكون رئيس الجمهورية هو الضمان لتسميته… إذا جاءت كلمته الأخيرة محسوبة لإرسلان و8 آذار.

وأبرز الملاحظات على هذا الفريق أنه يتحكّم بالميثاقية الشيعية، وبقوة. لكنه ليس منسجماً بالضرورة، خصوصاً في ما يتعلق بجنبلاط الذي قد تتبدّل اتّجاهاتُه وخياراتُه في مجلس الوزراء المقبل وفقاً للظروف والمصالح. فتارة يقترب من الحريري أو «القوات» وتارة من بري و»حزب الله» وتارة من عون و«التيار». ولذلك، على الأرجح، قد يعود إلى موقعه المحبّب، والذي خسره بعد تفاهم ​معراب​، موقع «بيضة القبان».

وثمّة مَن يعتقد أنّ التحالفات سيشهدها مجلس الوزراء المقبل ستكون أساساً «على القطعة»، أي وفقاً لكل قضية ومحور. ففي قضية ​الكهرباء​ و​النفط​ والاتّصالات قد تتلاقى قوى معيّنة في وجه أخرى، ثم تختلط التحالفات في قضايا أخرى، كالنازحين والتطبيع مع دمشق أو المسائل المتعلقة بالأمن أو ب​قانون الانتخاب​.

لذلك، سيكون صعباً ضمان الأصوات مسبقاً لمصلحة هذا القرار أو ذاك في مجلس الوزراء. إلّا أنّ الدور الذي إضطلع به جنبلاط في مراحل سابقة، كـ«بيضة قبان»، يبقى صالحاً للتطبيق في مسائل مختلفة. ولطالما أثبت الرجل براعته في استثمار هذا الموقع على أحسن حال.. إلى أن جاء «اتفاق معراب» ليُفرغه من وزنه.

واليوم، بانفراط مفاعيل الاتفاق «العوني»- «القواتي» سيتمكّن جنبلاط من استثمار موقعه مجدّداً، من خلال وزيرَين درزيَّين أو ثلاثة. وربما يضطلع وزير «المردة» بدور مماثل أحياناً، في ظلّ عملية خلط الأوراق التحالفية المرتقبة على الساحة المسيحية.

وفي أيّ حال، يمكن احتسابُ حصة 8 آذار في الحكومة - في ما يخصّ القرارات السياسية الحسّاسة - بـ18 وزيراً، مع احتياطي وزيرَين هما رصيد جنبلاط. ولا يمكن أن تتجاوز حصة 14 آذار في هذه الحال الـ10 وزراء. وهذه حسابات مريحة لـ«حزب الله» على المستوى الاستراتيجي.

لكنّ «الحزب» لا يكفيه ذلك. فالتفاصيل السياسية والاقتصادية والإدارية والأمنية والقضائية وسوى ذلك لها أهمية حيوية في السنوات الـ4 الباقية من العهد، والتي ستنتهي بانتخابات نيابية ورئاسية.

لذلك، يعمل «الحزب» على تدعيم مواقعه احتياطياً. ومن هنا، تفكيره في زيادة مقاعد حلفائه داخل الحكومة، من خلال استثمار العقدة السنّية التي بدأ يطرحها جدّياً، بعدما كانت للمناورة فقط في مراحل سابقة. فتسمية سنّي من حصة رئيس الجمهورية وآخر من حصة «حزب الله» من شأنها عملياً أن تُخرِج مقعدين سنّيين من أصل ستة، من يد «المستقبل» إلى حضن 8 آذار، أي ثلث التمثيل السنّي.

المتابعون من داخل 8 آذار يقولون: «لم يكن «الحزب» يطمح إلى تمثيل سنّي، وكان راضياً بإبقاء الحريري في وضعيّة مريحة داخل طائفته. فالمناخ الإقليمي كان أقلّ استفزازاً قبل 5 أشهر. لكنّ مماطلة الفريق الآخر في التأليف بناءً على تعليمات خارجية، ومراهنته على تطورات إقليمية من شأنها أن تحسّن شروطه في عملية التأليف هما اللتان دفعتا ​قوى 8 آذار​ إلى الردّ بالتشدُّد والتمسُّك بموقع أقوى في الحكومة المقبلة.

ومردُّ اعتراض عون الأساسي على تمثيل سُنَّة 8 آذار، الآتين من كتل مختلفة، تنبع خصوصاً من احتمال تطبيق هذه القاعدة على التمثيل المسيحي. فهناك أصوات ارتفعت فوراً بتمثيل 19 نائباً مستقلاً، ينتمون إلى كتل نيابية مختلفة. وتمثيل هؤلاء يمكن أن يكون بـ4 مقاعد أو 5 (وزير لكل 4 نواب).

وطرح هذه المسألة من شأنه أن يخلط أوراق التمثيل المسيحي بعنف في الحكومة، ما يقلب موازين التأليف مجدداً، رأساً على عقب. فهؤلاء سيتوزّعون عملياً بين معسكري 8 و14 داخل الحكومة.

كذلك يمكن أن يخشى رئيس الجمهورية أن تتمّ تسوية مسألة تمثيل السنّة، خارج «المستقبل»، بشخصية من 8 آذار، من ضمن حصته، وهذا الخيار متداوَل جدّياً.

وفي أيّ حال، لن يكون هذا الوزير من حصة الرئيس كلياً، في اللحظة الحاسمة. وقد يكون ذلك نموذجاً آخر لـ«الوزير الملك»، الدكتور ​عدنان السيد حسين​، المحسوب من حصة الرئيس ميشال سليمان في حكومة الرئيس سعد الحريري، والذي كان وراء سقوطها في كانون الثاني 2011.

إذاً، إنها لعبة حسابات دقيقة وراء الستار. وقد يُفرج «حزب الله» عن الحكومة في الأسبوعين المقبلين، مع بدء تطبيق ​العقوبات الأميركية​. لكنّ البعض يعتقد أنّ «الحزب» غيرُ منزعج من إطالة الأزمة إلى حين، وأنه ربما يخطط لتحسين نفوذه داخل الحكومة، خارج الحصة العونية، وسيدرس طريقة توفير الثلث المُعطِّل.

وقد يكون الوزير السنّي الذي يدور الخلاف حوله هو «الوزير الملك» الذي يحتفظ به «الحزب» احتياطاً، وقد يحتاج إليه في «لحظة حاسمة». وفي هذه الحال، تكون الأيام الآتية من معركة التأليف عنيفة وطويلة.