من "عقدة" إلى "عقدة"، ينتقل "البازار الحكوميّ" من دون أن يجد نهاية. كلّ الأفرقاء، من أصغرهم إلى أكبرهم، يبحثون عن "حصّة" لهم في ​الحكومة​، بمُعزَلٍ عن حجمها، ولا أحد يريد السماع بكلمة "معارضة" من قريبٍ أو بعيد.

هكذا، فضّلت "​القوات اللبنانية​" القبول بـ"الظلم الكبير" الذي قالت إنّه ارتُكِب بحقها، على ارتكاب "خطيئة" الانتقال إلى صفوف المعارضة. وهكذا، يحارب من يسمّون أنفسهم بـ"سّنة المعارضة" من أجل الظفر بمقعدٍ يتيمٍ، بوزارة دولة لا أكثر، ولو عطّلوا البلاد برمّتها.

أكثر من ذلك، ثمّة من يقول إنّ مَن بقي مِن "فتات" في "المعارضة" لم يكونوا ليتردّدوا لحظة في الدخول إلى الحكومة لولا "العيب والحياء". ليس سراً مثلاً أنّ حزب "الكتائب"، الذي يكاد "يحتكر" المعارضة اليوم، أرسل أكثر من إشارة عن "جاهزيّته" لبحث أيّ "عرضٍ" يُقدَّم له، والحبل على الجرّار...

نظام فريد

في معظم دول العالم، تكاد "المعارضة" توازي بقوّتها وثقلها "الموالاة"، بل تتفوّق عليها في أحيانٍ كثيرة. هي معادلةٌ بسيطة يقتضيها في المبدأ النظام الديمقراطي، الذي يعرف الموالاة والمعارضة، نظامٌ يسمح بالحدّ الأدنى بالمساءلة والمحاسبة، ضمن ألف باء الديمقراطية، نظامٌ يجعل الكثيرين يتوقون إلى المعارضة، بل يعتبرونها أكثر إغراءً وجاذبية من السلطة في معظم الأحيان.

وحده لبنان يشذّ عن هذه القاعدة، كما عن الكثير من الثوابت والمبادئ الأخرى، التي تُعتبَر من بديهيّات السياسة. هكذا، تذوب الموالاة بالمعارضة في لبنان، في إطار ما يسمّى بحكومات الوحدة الوطنية، التي تتحوّل إلى "نسخٍ مصغّرة" من البرلمان بما يقضي على مبدأ المساءلة عن بكرة أبيه، بل تُبتكَر في سبيل ذلك مفاهيم جديدة، على غرار "المعارضة من الداخل"، وهو مفهومٌ لا يزال بحاجةٍ إلى من يفسّره، ليس على طريقة "من فسّر الماء بالماء" بطبيعة الحال.

وعلى الرغم من أنّ الحاجة إلى المعارضة في لبنان تفوق بأضعاف الحاجة إلى "شراكات" جديدة في السلطة، التي تنبعث منها الكثير من روائح الفساد والمحسوبيات الكريهة، والتي لم تعد بخافية على أحد، فإنّ أحداً ليس مستعداً لخوض غمارها منذ سنواتٍ طويلة، والذرائع أكثر من أن تُعَدّ وتُحصى، يمكن اختزالها في "بدعة" لبنانيّة خالصة أخرى، عنوانها "الديمقراطيّة التوافقيّة"، مع ما توحيه هذه الكلمة من "جمع الأضداد"، باعتبار أنّ الديمقراطية شيء، والتوافق شيء منفصل عنها تماماً، بالشكل والمضمون.

قد يقول قائل إنّ النظام اللبناني الفريد هو الذي يحتّم اللجوء إلى مثل هذه "الديمقراطية"، خصوصاً في ضوء التركيبة الهجينة للمجتمع اللبناني المركّب طائفياً ومذهبياً. وقد يقول آخر إنّ التجارب المرّة والأليمة التي مرّ بها الشارع اللبناني تجعل المشاركة في السلطة من قبل جميع المكوّنات الفاعلة ضرورة وليست خياراً. لكنّ الواقع الناتج من تراكم "حكومات الوفاق" يؤكد أنّ هذه "الديمقراطية" لا تمتّ إلى "الديمقراطية" بصلة، وأنّ النتيجة هي شللٌ تام في السلطة، وعدم قدرة على الإنتاجية، في ظلّ تغييبٍ كاملٍ للمعارضة المثمرة أيضاً، عن سابق تصوّر وتصميم.

تجربة "الكتائب" نموذجاً؟

بالعودة إلى الواقع الحالي الذي يشهده لبنان وسط "التخبّط" في مفاوضات تأليف الحكومة، يمكن القول إنه باستثناء بعض الشخصيات التي تُعَدّ على أصابع اليدين في الحدّ الأقصى، والتي رفضت الدخول إلى الحكومة منذ اليوم الأول، إما عن "قناعة" بخط "المعارضة"، وهي الأقلية بطبيعة الحال، وإما لأنّها لم تستطع "ابتداع" كتلة "رباعية" تبرّر لها "الطلب"، فإنّ المعارضة كانت "منبوذة" من الجميع، في مفارقةٍ أكثر من واضحة.

ولعلّ تجربتي "القوات" و"سُنّة المعارضة"، وقبلهما النائب طلال أرسلان، وغيرهم، كافية للدلالة على وجود هذه "العقليّة" لدى مختلف الكتل السياسيّة اللبنانيّة، وكأنّ التخيير بين الموالاة والمعارضة بات تخييراً بين الجنّة والنار، حتى أنّ فكرة "حكومة الأكثرية" حين طُرِحت في مرحلة من المفاوضات الحكوميّة، قوبِلت بالويل والثبور وعظائم الأمور، وكأنّ من يفكّر بها، ولو مجرّد تفكير، يرتكب "خيانة عظمى" تستوجب التوبة أو العقاب.

وإن دلّ ذلك على شيء، فعلى أنّ المعارضة في لبنان لم تعد مغرية ولا جاذبة، والسبب الأساسي في ذلك، كما يقول البعض، وبعيداً عن أسلوب "الجلد"، أنّ التجارب السابقة لم تكن على قدر الطموحات والتطلعات، وآخرها تجربة حزب "الكتائب اللبنانية" على سبيل المثال، تجربة يرى كثيرون حتى داخل الحزب أنّها كانت "مخيّبة"، وهو ما تجلّى في ​الانتخابات النيابية​ الأخيرة، التي لم يستطع الحزب المعارض الوحيد الحصول بموجبها على أكثر من ثلاثة نواب في المجلس النيابي، بينهم اثنان في منطقة واحدة.

ولعلّ مصدر "الخيبة" يعود إلى كون الحزب لعب لعبة "المعارضة" حتى الرمق الأخير، بل إنّ رئيسه النائب ​سامي الجميل​ الذي "خاصم" الجميع، أصدقاء وخصوماً، "تفنّن" فيها إلى أقصى الدرجات، ما حوّله إلى "رمزٍ" للنضال بنظر العديد من الشرائح في المجتمع، لتأتي الانتخابات وتكرّس مقولة خصومه عن "انتحارٍ سياسيّ" ارتكبه بحقّ نفسه، حين ارتضى الانسحاب طوعاً من "جنّة الحكم"، وإن كان البعض يسجّل عليه لجوءه إلى بعض المزايدات "الشعبوية"، من دون أن يقدّم الحلول التي ينشدها الجميع.

المراجعة المطلوبة

إذا كان صحيحاً أنّ تجربة "الكتائب" في المعارضة أتت "مخيّبة"، على الرغم من أنّ عمرها "القصير" نسبياً قد لا يسمح بتقييمها بشكلٍ كامل، فإنّ كثيرين لا يزالون ينظرون إليها من زاوية أخرى، وتحديداً من باب "المصلحة" على اعتبار أنّ الحزب الذي تمرّس في الحكم لسنواتٍ وسنوات، ذهب إلى المعارضة "مُكرَهاً" وليس "بطلاً"، فضلاً عن كونه "انقلب" على نفسه قبل غيره، حين انتقد ممارساتٍ لطالما كان "شريكاً" بها بشكلٍ أو بآخر.

لكن، سواء كانت التجربة "الكتائبية" مخيّبة أم لا، فإنّ المطلوب عدم "الاستسلام" لمثل هذا الأمر الواقع، والوصول إلى قناعة مفادها أنّ "السلطة" هي الهدف، بمعزلٍ عن كلّ "الجرائم" التي يمكن أن تُرتَكَب باسمها، بل قد يكون المطلوب عملياً مراجعة هذه التجربة وغيرها من التجارب السابقة لإنتاج معارضةٍ جدّيةٍ وفاعلةٍ ومثمرةٍ، خصوصاً أنّ كلّ مقوّماتها متوافرة في الواقع اللبناني، بعيداً عن أسلوب "التخوين" الذي يُرشَق به كل من يتجرّأ على تصنيف نفسه "معارضاً" من هنا وهناك...