نجح النائب "​التقدمي الاشتراكي​" ​تيمور جنبلاط​، في إستعادة زخم العلاقة التي كانت قائمة بين الروس والاشتراكيين، بعد قطيعة فرضتها مواقف والده رئيس "التقدمي" ​وليد جنبلاط​ إزاء موسكو، بسبب "حمايتها" نظام الرئيس السوري ​بشار الأسد​، وتدخّلها العسكري في الحرب، التي صنّفها جنبلاط "ثورة شعبية"، ورأت فيها ​روسيا​ تآمراً على الدولة السورية، ومحاولة كسر نفوذها في بلاد الشام.

يُحكى أنه اثناء تلبية جنبلاط الإبن لدعوة موسكو الأولى منذ ثلاث سنوات، ولدى وصوله الى المطار، قادماً اليها من لبنان، وصلت رسالة خبرية على هاتف النائب "التقدمي" ​وائل أبو فاعور​، تتضمن موقفاً جنبلاطياً هجومياً لاذعاً على الرئيس الروسي ​فلاديمير بوتين​، ما يسبب الاحراج لتيمور وابو فاعور. وبالفعل، اثناء اجتماع الإثنين امام المكلّف الروسي بإدارة شؤون العلاقات مع اللبنانيين ​ميخائيل بوغدانوف​، سحب الأخير ورقة تتضمّن موقف "وليد بك" الهجومي، فردّ ابو فاعور ممازحاً: هذا تصويب على تيمور وليس عليكم، فلا بدّ من الرد بتمتين العلاقات مع جنبلاط الإبن...

بدبلوماسيته الروسية اللبقة، تجاوب بوغدانوف مع طلب ابوفاعور، وتابع المجتمعون طرح الهواجس والقضايا بسلاسة سياسيّة، تدلّ على رغبة موسكو بتقوية العلاقات مع القوى اللبنانية. هذا ما يحصل بالفعل، عبر نشاط سفير الاتحاد الروسي في بيروت الكسندر زاسيبكن، الذي نجح في اقامة العلاقات مع النسيج اللبناني، وتميّز عمن سبقه، وعن غيره من سفراء الدول الأجنبية والعربية. لعب اسلوب زاسيبكن الدبلوماسي الراقي والودّي، دوراً اساسياً في تقريب المسافات بين سفارة بلاده والقوى والشخصيات اللبنانية، فأكمل عملياً المهام التي يقوم بها بوغدانوف في لقاءاته مع المدعوين اللبنانيين الى موسكو.

لم تقتصر اللقاءات على حليف، أو مؤيد لدور روسيا في الشرق الاوسط، بل مدّ الروس اياديهم لمصافحة الكل، من دون استثناء، والاستماع الى آراء مختلف القوى اللبنانية. فزارت موسكو: وفود "الكتائب"، و"المردة"، و"التقدمي الاشتراكي"، و"الديمقراطي اللبناني"، و"المرابطون"... ويبدو أن الروس سيتابعون لقاءاتهم مع باقي القوى السياسية. علماً أن التواصل قائم مع رئيس الحكومة المكلف ​سعد الحريري​، الذي كان زار روسيا مرات عدة في الآونة الأخيرة. امّا دعوة رئيس مجلس النوّاب ​نبيه بري​ فهي قائمة من قبل رئيس مجلس الدوما الروسي، لكن بري اعتاد الإجتماع مع قادة الدول عند تلبية دعواتها، وهو الأمر الذي يبحثه الروس، بسبب طبيعة البروتوكول عندهم، التي تنصّ على استقبال رئيس البلاد لنظرائه، او رؤساء الحكومات، من دون الاشارة الى رؤساء مجالس النوّاب. لكن دور بري السياسي في لبنان والمنطقة، يحتّم لقاءه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. خصوصا ان ذاك الدور الذي لعبه رئيس المجلس النيابي اللبناني طيلة السنوات الماضية، مميزٌ في ادارة الحوار اللبناني، وضبط الساحة الداخلية، اضافة الى المكانة العربية والاسلامية والدولية التي يتمتع بها، كما يظهر في ترؤسه ودوره في الاتحادات البرلمانية.

بالمحصّلة، كل التصرفات الروسية توحي بأن موسكو اتخذت قرار عدم ترك الساحة اللبنانية لخصومها أو حلفائها الدوليين. تؤكد طبيعة اللقاءات التي تجري في موسكو، بأنها تسعى لإظهار قدرتها على لم الشمل السياسي اللبناني، والبقاء على مسافة واحدة من كل القوى اللبنانية.

لكن ما هي الغاية الروسية؟ وهل تقتصر فقط على تلك الاهداف المذكورة أعلاه؟

اذا كانت موسكو تحيّد نفسها الآن مثلا عن مقاربة ملفّ تأليف الحكومة اللبنانية، بإعتبار انها لا تتدخل في شؤون داخليّة لبنانيّة، وتدعم اتفاق اللبنانيين، فما هو دورها؟ بالطبع، ان الايجابية الروسية واضحة في التعاطي مع لبنان، ولو كان طلب منها لبنانيون التدخل لفعلت، لكن دورها يتمحور حول دعم لبنان، في مواجهة التحديات والارهاب، ومؤازرته عند وجود خطر امني أو وجودي، بالاضافة الى حثّ القوى اللبنانية التي تزور موسكو على توحيد الصفوف الداخليّة.

ليست روسيا كالولايات المتحدة الأميركيّة، التي تمتلك اجندات خاصة في لبنان. ولا هي فرنسا التي تعتبر نفسها منذ أوائل القرن الماضي بأنها معنية باللبنانيين الذين أطلقوا عليها لقب "الأم الحنون". ولا هي السعوديّة، أو إيران، أو سوريا، الذين لهم حلفاء محدّدين. تريد موسكو ان تكون مساحة الجمع. سفيرها في بيروت ينجح في تأدية هذا الدور، وبوغدانوف ايضاً يحقّق الهدف نفسه في لقاءات موسكو. تبقى الترجمة العمليّة رهن دعم لبنان، في ملفات الغاز والنفط، وسلاح الجيش، واستيراد منتوجات لبنانيّة زراعيّة وصناعيّة.