إِذا كان تحديد "​المافيا​ الإِيطاليَّة" والتَّعريف بها، بحسب الـ"ويكيبيديا"، أَنَّها "مُنظَّمةٌ إِجراميَّةٌ ظهرَت في مُنتصف القرن التَّاسع عشر في جزيرة صقلِّية"، وأَنَّها "تحالفٌ حرٌّ بين عِصاباتٍ إِجراميَّةٍ تَجمعها بنيةٌ تَنظيميَّةٌ مُشتركة، وقواعد سلوكيَّة مُوحَّدة"، فإِنَّ غالبيَّة تلك الصِّفات تَنطبقُ أَيضًا على "مافيا المُولِّدات الكهربائيَّة" في ​لبنان​، الَّتي تعرَّت أَخيرًا من ورقة التُّوت الَّتي لطالما تستَّرَت بِها...

فليس الإجرام يقتصر فقط على قتل الأجساد، بل إنَّ من يسلب الفقير ماله، وأُمَّ الشَّهيد الأَرملة خبزَها اليوميَّ، والشُّهداء الأَحياء نعمة الهناء ببعض السَّنوات العجاف المتبقِّية لهم تحت أَعباء صليب الآلام وفي ظلِّ آثار الحرب على أجسادهم... هو مجرمٌ أَيضًا.

ومَن يسلبُ المواطن الكادحَ ليلَ نهارٍ، ليَأْكُل خبزَه من عرق جبينه، تَعَبَه في اللَّيالي الحالكة السَّواد... هو مجرمٌ أَيضًا، لا بل قد يكون جشعُه أَشدَّ إيلامًا من جشع المافيات الَّتي قد ينأى بعضُ الشَّعب بنفسِه عن فسادها. وأَمَّا فساد هؤلاء فشاملٌ كاملٌ.

وبدلاً من أَنْ يَعتذر هؤلاء من الشَّعب، كلِّ الشَّعب، على قطع ​الكهرباء​ عنهم عَمْدًا، غيرَ آبهين بطيبٍ يَنتظر مرضاه دورَهم في العيادة طلبًا للشّفاء من مرضٍ في الجسم أو لعلّةٍ في الأَسنانِ، ومِن مريض كلًى أنعمِت عليهِ الأَيَّام بآلةٍ يغسل بواسطتِها مِن منزله، كليةً مُتلفة، وآخر باغتَتْه حالٌ صحيَّةٌ طارئةٌ استوجَبَت نقلَه من الطَّبقَة الخامسة إِلى أَقرب ​مستشفى​ له... فقد عَمد هؤلاء إِلى إِعلان حربهم المفتوحة ضدَّ الشَّعب!.

وإلاَّ فَكيف يُمكن تَفسير أَنْ "يَحجُبَ" الجَشع كلَّ هذه الاحتمالات عن ضمائر "أَثرياء الحرب الجدد"؟، بدليلِ أَنَّهم شكَّلوا بدورِهم، "تحالُفًا حرًّا" انعدمَت فيه المسؤوليَّة وغاب عنهُ الضَّمير، تحالفًا قائِمًا "بين عِصاباتٍ إِجراميَّةٍ تَجمعها بنيةٌ تَنظيميَّةٌ مُشْتركةٌ، وقواعدُ سلوكيَّةٌ مُوحَّدةٌ"، ولا يمكن تمييزُها عن المافياتِ العالميَّة بشيءٍ...

أَفلا يصحُّ بهم قولُ الشَّاعر الأحيمر السَّعديّ:

"عوى الذِّئبُ فاسْتأْنَستُ بالذِّئبِ إِذ عوى وصوَّتَ إنسانٌ فكِدتُ أَطيرُ"

وبدلاً من الاعتذار، كشف هؤلاء عن كلِّ عوراتهم، لا بل ازدادوا معاصيَ، حتَّى أَنَّ أَحدَهم في منطقة ​جديدة المتن​، قرَّر الانتقام من النَّاس على خلفيّة تركيب العدَّادات، فرفع سعر الـ10 "أمبير" من 20 ألف ليرة في أيَّار 2018، إِلى 150 ألف ليرة في أيلول الماضي، أَي بزيادةٍ قدرها سبعة أضعاف ونصف الضُّعف، شاهرًا الفاتورة في وجه السكَّان في اليوم التَّالي من تنفيذه "الإضراب التَّحذيريِّ"...

قد نفهم أَلاَّ تُغذِّي "مؤسَّسة ​كهرباء لبنان​" اللبنانيِّين والنازحين الأَجانب بالطَّاقة بالكاملِ، بسبب تَرِكَة الحرب الثّقيلة، ولأَلفِ سببٍ وسببٍ، لسنا في معرض الحديثِ عنها الآن... غير أَنَّنا لا نفهم أَنْ تَعمد "مافيا أَصحاب المولِّدات" إِلى قطع الكهرباء عن المواطنين، عن سابق تصوُّرٍ وتصميمٍ، لتَعود وتبتزَّهم بأسعارٍ مُتفلِّتة من كلِّ عدلٍ، وخاليةٍ مِن أيِّ حسٍّ بالضَّمير، ومنعدمة المَسؤوليَّة، وهي تُؤكِّد أَنَّ طلب تركيب عدَّاداتٍ هو في محلِّه، وهو ما يوفِّرُ حمايةً للشَّعب المسكين، من جشع "كارتل" أَصحاب المولِّدات. وحتَّى الَّذين تَخوَّفوا مِن فكرةِ تركيب العدَّادات، على اعتبار أَنَّ تلك الخطوة "تُشرِّع" وضع مولِّدات الكهرباء... قد يعودون اليوم عن قرارهم، لأَنَّ المُعادلة ما عادت بين "تشريعٍ" لوضع المولِّدات أو "عدم تشريعِه"، بل بين "نَهْبٍ" على قاعدة القول الشَّعبيِّ "عَيْنك بِنْت عَيْنك"، أَو وضعِ حدٍّ لهذه السَّرقات المسْتَشرية!.

إِنَّ ما حدث في السَّاعات الثَّماني وأَربعين الماضية، يدخل ​الفساد​ الاجتماعيَّ والإِفلاس الخلقيَّ من بابهما العَريض، فحذارِ الوقوف في وجه شعبٍ، لم يَقوَ عليه عدوُّ، فهو بالطَّبع لن ينهزمَ أَمام الفسادِ، في عهدٍ عنوانه العريض: "التَّغيير والإِصلاح".

​​​​​​​