منذ ​الانتخابات النيابية​ الأخيرة، حقّق "​حزب الله​" الكثير في الواقع الداخلي، مستفيداً من دعم الأصدقاء وانفتاح الخصوم إلى حدّ كبير. وعلى الرغم من "امتناعه" عن تسمية رئيس الحكومة المكلف ​سعد الحريري​ في الاستشارات النيابية الملزمة، إلا أنّ عدم تسميته أحداً في المقابل اعتُبِر مؤشراً إيجابياً، تلقفه الأخير بثنائه على "حزب الله" وتسهيله مهمّته مراراً وتكراراً.

كلّ ذلك تبخّر في لحظةٍ واحدةٍ في المرحلة الأخيرة، بعدما كادت الحكومة أن تولَد، قبل أن يُسقِطها الحزب بـ"فيتو" النواب السنّة "المستقلّين"، أقلّه وفق ما هو ظاهر. ومع أنّ الحزب كان ينادي بهذا المطلب منذ اليوم الأول، إلا أنّ عدم رفعه السقف أوحى للمعنيّين بالتأليف أنّه لن يصل لحدّ وضعه "شرطاً" للتأليف كما هو حاصل اليوم، لينتقل بذلك من خانة "المسهّل" إلى "المعرقل الأوحد".

وفيما يصرّ "حزب الله" على أنّ "الوفاء للحلفاء" هو السبب الوحيد لتمسّكه بمطلبه، ثمّة من يقول إنّ "الخسائر" التي حصدها تفوق "المكاسب" التي جناها على مدى أشهر، بدليل "انقلاب" مواقف أقرب المقرّبين منه بشكلٍ من الأشكال، فهل من مصلحة له في كلّ ذلك؟!.

مبدئيّة سياسيّة؟!

يقول العارفون بأدبيّات "حزب الله" إنّ موقفه من توزير "سُنّة ​8 آذار​" أو من باتوا يُعرَفون بـ"السنّة المستقلّين"، هو نابع من "الوفاء" أولاً وأخيراً، انسجاماً مع المبادئ والثوابت التي لطالما تمسّك بها الحزب في ممارسة العمل السياسي، بعيداً عن كلّ الحسابات والاعتبارات الأخرى التي يمكن أن تدخل على الخط من هنا أو هنالك.

ومع أنّ الحزب لا يحبّذ المقارنة بين موقفه اليوم، ومواقفه السابقة من أكثر من استحقاق، لأكثر من سببٍ واعتبار، إلا أنّ الكثير من الدائرين في فلكه يجدون في تمسّك الحزب بانتخاب رئيس الجمهورية ​ميشال عون​ في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، خير تعبيرٍ عن هذه "المبدئية السياسية"، وهو الذي كان يصرّ على أنّ لعون "دَيْناً" في رقبة الحزب إلى يوم القيامة.

من هنا، فإنّ "الوفاء" الذي يبديه الحزب اليوم إزاء "السنّة المستقلّين" يوازي في مكانٍ ما، مع اختلاف الظروف والحيثيّات، ذلك الذي جعله يتمسّك بانتخاب العماد عون، رغم كلّ الصعوبات والمعوّقات، والذي أسهم بدرجةٍ كبيرةٍ في انتخاب الرجل رئيساً، أو على الأقلّ في دفع الأفرقاء الآخرين إلى تبنّي ترشيحه، بعد سقوط كلّ الخيارات "البديلة" التي طُرِحت على دفعات قبل وبعد دخول البلاد في الفراغ الرئاسيّ.

إلا أن هذه "المبدئيّة" تصطدم اليوم بـ"تشكيكٍ" بدأ ينبع من حلفاء وأصدقاء الحزب قبل خصومه. رئيس الجمهورية نفسه كان أول المعترضين، متحدّثاً عن "خطأ في التكتيك". رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" ​وليد جنبلاط​ الذي يتفادى منذ سنوات الصراع مع الحزب، ذهب أبعد من ذلك، بربطه صراحة ما وصفه بـ"افتعال" العقدة السنيّة بالعقوبات الأميركيّة، معتبراً أنّ عمليّة تأليف الحكومة "أصبحت ورقة ضمن إطار النزاع الاميركي الإيراني".

الكرة في ملعب من؟

لعلّ ما قاله جنبلاط حول "افتعال" العقدة السنيّة ربطاً بالعقوبات على إيران، ويقوله الكثير من خصوم الحزب في العلن، والعديد من حلفائه في الخفاء، يختصر المسألة برمّتها.

بالنسبة لهؤلاء، لا تبدو نظرية "الوفاء" منطقيّة، خصوصاً إذا ما أدّت إلى فرط الحكومة عن بكرة أبيها من أجل مقعدٍ واحدٍ لن يقدّم ولن يؤخّر شيئاً في المعادلة، وخصوصاً أنّ المعنيّين بها شخصيّاتٌ وإن كان لها حيثيّة، لم تكن لتقوى على أيّ تعطيلٍ لولا الإسناد الكبير من "حزب الله".

رغم ذلك، يصرّ الحزب على موقفه، غير آبهٍ بما يسمع من هنا وهناك. يكتفي المقرّبون منه بالقول إنّه "يتفهّم" حيثيات مواقف البعض، ولا سيما رئيس الجمهورية، الذي قد يكون موقفه شكّل "الإحراج الأكبر" للحزب، خصوصاً أنّه صدر في العلن وليس عبر قنوات التواصل المعتادة، ولم يتمّ إلحاقه بأيّ لقاءٍ تنسيقيّ أو توضيحيّ بين الجانبين كما كان متوقّعاً، ولكنّه يطلب من هذا البعض "تفهّم موقفه" في المقابل.

وفيما يعوّل كثيرون على "مبادرةٍ" ما يمكن أن يطلقها الأمين العام لـ"حزب الله" ​السيد حسن نصر الله​ في كلمته المرتقبة خلال ساعات، لا يبدو في الأفق ما يوحي بأيّ تطورٍ من هذا النوع، بل إنّ الحزب يعتبر أنّ الكرة ليست في ملعبه على الإطلاق. وهنا يُحكى في الكواليس عن سيناريوهين محتملَيْن، الأول أن يتنازل رئيس الحكومة ويقبل بتوزير أحد سُنّة "8 آذار"، الأمر المُستبعَد بشكل شبه كامل، أو أن يوزّر شخصيّة سنّية "وسطية"، أو ربما محسوبة على أحد نواب السنّة من خارج النواب الستّة، كرئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي، أو حتى النائب فؤاد مخزومي، ما يقطع الطريق على مطالب "السنّة المستقلّين"، من دون أن يُهزَم، خصوصاً أنّه، في كلّ المواقف التي صدرت في الأيام الأخيرة، يصرّ على "عدم توزير أحد النواب الستّة" تحديداً، ما يترك الباب مفتوحاً أمام "تسويات اللحظة الأخيرة".

أما الخيار الثاني، الذي يعوّل عليه الحريري والكثير من الأفرقاء، فهو أن يتنازل السنّة المستقلّون "طوعاً" وينسحبوا من "البازار" الذي طالت مدّة إقامتهم فيه. ويعوّل هؤلاء على أن تفضي الجولة التي يقومون بها على المرجعيّات إلى مثل هذا الحلّ، خصوصاً أنّ ما سمعوه من مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان عن ضرورة وجود معارضة، سيسمعون مثله من البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي ورئيس الجمهورية، ما يمكن أن يتيح البوابة للولوج إلى المَخرَج، وبهذه الطريقة تتشكّل الحكومة، من دون أن يكون "حزب الله" من تراجع عن موقفه.

المبادرة المنتظرة

بعد أشهر من الإشادة بـ"حزب الله" لكونه "أكثر المسهّلين" لمهمّة رئيس الحكومة المكلف، باعتراف الأخير شخصياً، انقلب الموقف في لحظةٍ واحدةٍ، ليصبح الحزب من يعطّل، وبتعليماتٍ خارجيّة، بـ "افتعال" عقدة لا أساس لها، انتقاماً وثأراً من العقوبات.

ومع أنّ الكثيرين قد لا يؤيّدون هذا الربط، ويعتبرون موقف الحزب "داخلياً محض" ومنطلقاً من "مبدئيته السياسية" التي عبّر عنها مراراً، إلا أنّ الجميع باتوا مقتنعين أنّ الحزب وُضِع "في قفص الاتهام"، في استراتيجيّة تبدو مثمرة، وإن أصرّ على تجاهلها.

وإذا كان لحلفاء الحزب وأصدقائه، وفي مقدّمهم عون وجنبلاط، دور أساسيّ في هذه الاستراتيجيّة، فإنّ كثيرين يعتبرون أنّ الكرة لم تعد في ملعب الحزب، ولا حتى الحريري، بل في ملعب السنّة المستقلّين نفسهم الذين بات عليهم "التضحية" بالمقعد الوزاريّ من أجل الحزب، بعدما ضحّى الأخير بالكثير من أجلهم...