مجدّداً، وجد رئيس الحكومة المكلّف ​سعد الحريري​ نفسه في موقفٍ لا يُحسَد عليه. "اعتكف" الرجل لأيام في العاصمة الفرنسية باريس، ظنّاً منه أنّ الأجواء يمكن أن "تبرد" بغيابه، فينشط "الأصدقاء" لابتداع حلٍ لا يُحرِجه لما سُمّيت بـ "العقدة السنية"، مستنداً في ذلك إلى موقف رئيس الجمهورية ​ميشال عون​ "المتضامن" معه.

لكن، وعلى قاعدة "ما كلّ ما يشتهيه المرء يدركه"، عاد الحريري من "إجازته" على وقع أجواء أكثر تشنّجاً، عكسها الخطاب الأخير للأمين العام لـ"حزب الله" ​السيد حسن نصر الله​، الذي وُصِف بأنّه "الأعنف" إزاء الداخل اللبناني منذ سنوات، خطابٌ يعتبر كثيرون أنه "عقّد" مهمّة الحريري بدل أن يسهّلها، ووضعه أمام خياراتٍ قد يكون "أحلاها مُرّ".

رفع السيد نصر الله السقف عالياً، جازماً بأنّ لا حكومة من دون "سُنّة ​8 آذار​". ولكن، كيف يمكن أن يكون ردّ الحريري؟ هل يستطيع الرجل إضافة "تضحية" جديدة إلى السجلّ الذي لم يجفّ حبره بعد منذ التسوية الرئاسيّة الشهيرة؟ وماذا لو وافق على توزير "سُنّة 8 آذار"؟ كيف يبرّر ذلك أمام جمهوره، وهو صاحب مقولة "فتشوا عن غيري"؟.

"انتحار سياسي"؟

قبل ساعاتٍ من المؤتمر الصحافي المرتقب للحريري اليوم، بقيت الصورة داخل "تيار المستقبل" غير واضحة، في ظلّ انقسامٍ في الرأي حول "الخطوات العملية" التي يفترض برئيس الحكومة المكلف الذهاب إليها، رغم "الإجماع" على اعتبار خطاب السيد نصر الله "غير موفَّق" من حيث التصعيد الذي تخطى كلّ الخطوط المرسومة.

وفي هذا السياق، يمكن الحديث عن وجهتي نظر "تتنازعان" داخل التيار "الأزرق"، تميل الأولى إلى أنّ الرد على "تصلّب" نصر الله في خطابه الأخير، لا يجوز أن يكون سوى بـ"تصلّب مضاد"، بل يذهب بعض أصحاب وجهة النظر هذه إلى حدّ الدفع نحو فكرة "اعتذار" الحريري، ولو قال سابقاً إنّه في حال اعتذر لن يقبل أن يُعاد تكليفه من جديد، انسجاماً مع الثوابت التي سبق أن أعلنها، ولأنّ تقديمه أيّ "تضحية" اليوم بقبوله بتوزير هذه المجموعة سيكون بمثابة "انتحار سياسي".

وفي مقابل وجهة النظر هذه، ثمّة وجهة نظر مضادة تقول إنّه إذا كان توزير "سُنّة 8 آذار" في الحكومة بمثابة "انتحار سياسي"، كما سبق أن أوحى الحريري نفسه، فإنّ "الاعتذار" قد يكون "انتحاراً سياسيّاً" أشدّ وطأة، وإن كان الحريري يعتقد أنّه لا يزال يشكّل "حاجة" لحلفائه وخصومه في آن، وفي مقدّمهم "حزب الله" الذي يدرك أنّ ترؤسه شخصياً للحكومة، يؤمّن له غطاءً لن يقوى أيّ رئيس حكومة آخر على توفيره، بل قد يعيد عقارب الساعة إلى أيام ما سُمّيت بـ"حكومة حزب الله" التي ترأسها رئيس الوزراء السابق ​نجيب ميقاتي​، التي قد تكون تبعاتها أكثر سلبيّة اليوم، في زمن "العقوبات الأميركية".

من هنا، يسود اعتقادٌ بأنّ الحريري سيعمد في مؤتمره الصحافي إلى حفظ "خط الرجعة" كما يُقال، بحيث لا يذهب في التصعيد إلى الحدّ الأقصى، خصوصاً مع دخول رئيس الجمهورية و"التيار الوطني الحر" على خطّ حلّ العقدة بشكلٍ أو بآخر، ما يعني أنّ أبواب الحلّ لم تُقفَل، ولا يفترض بالحريري أن يوصدها، علماً أنّ كثيرين يعتقدون أنّ "الانفجار" الذي أوحى به خطاب الأمين العام لـ"حزب الله" قد يكون هو الممهّد لـ"الانفراج" المنتظر.

"حزب الله" منتصر؟!

لكن، إذا كانت أبواب الحلّ غير موصَدة، فإنّ علامات استفهام بالجملة تُطرَح حول الحلّ المُتاح، وتبعاته على الداخل على مختلف الأصعدة، كما على شكل الحكومة المقبلة، والتحديات التي تنتظرها خصوصاً على صعيد تآلفها، وبالتالي إنتاجيّتها.

ولعلّ قياس "الحلول" مقارنة مع مواقف الحريري السابقة لا تصبّ في صالحه، هو الذي سبق أن قالت مصادره إنّه لن يقبل برئاسة حكومة يكون فيها أحد "سُنّة 8 آذار"، ما يعني أنّ الحلّ بتوزير أحد هؤلاء، كما يطالب "حزب الله"، حتى لو كان ذلك من حصّة رئيس الجمهورية، لن يجعل الرجل يبدو بمثابة "المنتصر".

وثمّة من يقول إنّ الذهاب إلى "حلّ وسط" بتوزير شخصية "وسطية" يسمّيها رئيس الجمهورية على طريقة حلّ "العقدة الدرزية" لن يكون أفضل بكثير، علماً أنّ هذا الحلّ الذي قد يكون "أفضل الممكن" للحريري، لا يزال مرفوضاً من جانب "سُنّة 8 آذار" وبالتالي "حزب الله"، باعتبار أنّهم وحتى الآن، يصرّون على حصر التمثيل بأحد النواب الستّة المنخرطين ضمن ما سُمّي بـ"اللقاء التشاوري السنّي".

وأبعد من كلّ ما سبق، وأبعد من "الخسائر" التي لن يكون صعباً على الحريري إقناع جمهوره بها رغم رفعه السقف عالياً، هو الذي سبق أن نجح في اختباراتٍ مشابهة، خصوصاً عند إبرام "التسوية الرئاسية" وتحوّل فريقه إلى داعمٍ للرئيس ميشال عون بعدما كان خصماً شرساً له، فإنّ السؤال عن "التبعات السياسية" أكثر من مشروع.

في هذا الإطار، ثمّة من يعتبر أنّ أيّ "تنازل" من هذا الطراز سيكون هو "الانتحار السياسي" بحدّ ذاته للحريري، باعتبار أنّه بذلك يسلّم من جديد لشروط "حزب الله"، بل يخضع ويرضخ لها بكلّ بساطة، بما يؤسّس عرفاً كان قد بدأ في الانتخابات الرئاسية، ومفاده بأنّ الحزب يحقّق ما يريد، مستنداً إلى "قوته" في مكان، وإلى "صبره" الذي لخّصه بقوله إنّه يتشبّث بموقفه "حتى قيام الساعة".

وأكثر من ذلك، كيف سيكون موقف الحريري إزاء حلفائه في الداخل والخارج في حال وافق على تقديم مثل هذه "التضحية"؟ كيف سيكون موقفه بالتحديد إزاء المملكة العربية السعودية، التي سبق أن "اهتزّت" علاقته بها بسبب تنازلاتٍ مشابهة سبق أن قدّمها في الحكومة السابقة؟ ومن سيقتنع عندها بأنّ الحريري يسلّم بأحقية القوى السنية التي أفرزتها الانتخابات النيابية الأخيرة بالتمثل أسوة بغيرها من القوى، بعد أن تصدّى بنفسه لهذا "المنطق" طيلة أشهر؟!.

التعويل على عون!

خلاصة الموقف أنّ الحريري في موقفٍ لا يُحسَد عليه. قد يكون خطاب السيد نصر الله، بلهجته العالية وسقوفه المرتفعة، هو الذي فرض عليه كسر "اعتكافه"، إلا أنّه عملياً لا يزال أمام خياراتٍ قد يكون أحلاها مُرّ بالنسبة إليه.

قد يدفعه البعض إلى "الاعتذار" باعتباره "بطولة"، وباعتبار أنه يستطيع من خلاله فرض شروطه، إلا أنّ هذا الخيار يبقى أصعب من قدرة الحريري على تحمّل تبعاته غير المضمونة. أما القبول بتوزير "سُنّة 8 آذار" فليس خياراً محبَّذاً من جانبه، لا شعبياً ولا سياسياً، ولا حتى في علاقاته الخارجية.

يبقى "تعويل" الحريري الأول والأخير على رئيس الجمهورية لـ"إنقاذ" موقفه عبر ابتداع "المَخرَج" المناسب للعقدة المستجدّة، "مَخرَجٌ" يجب أن يكون عنوانه "عدم الإحراج"، خصوصاً أنّ الرئيس عون سبق أن أعلن صراحةً بأنّ لا مصلحة لأحد بأن يكون رئيس الحكومة "ضعيفاً"، وهنا بيت القصيد...