لم يكن التواصل بين بنشعي ومعراب امراً سهلاً، ولا تفصيلاً عابراً، بل احتاج الى جهد من حزب "القوات" وتيار "المردة" إمتّد على سنوات، بين اندفاع وتراجع، بحسب الظروف السياسية التي مرّ بها لبنان والمنطقة.

يُسجل لرئيس "المردة" ​سليمان فرنجية​ شجاعته في الإقدام على المصالحة، ولرئيس "القوات" ​سمير جعجع​ قدرته على تذليل العقبات التي اعترضته منذ سنوات، بالاستناد الى تاريخ مؤلم في الحرب اللبنانية. ما يعني ان فرنجيّة وجعجع قررا اجتياز الماضي، بكل ذكرياته وآلامه. وهو أمر كان بدأه "سليمان بك" منذ عام 2005، بعد خروج "الحكيم" من السجن، فمدّ "المارد" يده للمصافحة، عبر اتصال هاتفي لم يُكتب له النجاح بفعل رهانات جعجع الخاطئة آنذاك. لكن "الحكيم" عاد الى واقعيته السياسية، واتخذ قرار الانفتاح على بنشعي.

مرّت العلاقات في مدّ وجزر، محكومة بسياسات متباعدة، منذ ما بعد 2005، يوم اختار فرنجية طاولة الرابية للجلوس الى جانب رئيس "تكتل التغيير والاصلاح" آنذاك العماد ​ميشال عون​، فإزداد التباعد بين "المردة" و"القوات"، وكثرت المواجهات الامنيّة التي ابقاها الفريقان محدودة، من دون السماح بتوسعها. كادت يومها ان تستفيق في الشمال فتنة دموية، الى أن كرّت المحطات السياسية، وصار فرنجية مرشحاً لرئاسة الجمهورية، فمنع جعجع وصوله من خلال انتخاب عون بعد توقيع "اتفاق معراب". كان يعتقد "الحكيم" أن "سليمان بك" يهدد مشروعه السياسي، لأسباب لها بطبيعة فرنجية، وعلاقاته الاقليمية، وطموحاته. لكن مطبّات العلاقة بين "العونيين" و"القواتيين" شجعت بنشعي ومعراب على استكمال بناء اتفاق، كانوا وضعوا مداميكه الأولى سابقا"، من دون بت مساره ومصيره.

لا يمكن القول إن الاتفاق بين الفريقين الآن هو نتيجة قرار مواجهة "الوطني الحر"، لكن سياسات رئيس التيار البرتقالي هي التي شجعت معراب وبنشعي على المضي قدماً، وسرّعت توقيع الاتفاق تحت خيمة البطريركية المارونية.

ماذا يستفيد الفريقان؟

لم يعد الشمال مساحة معرّضة للهزّات الأمنية في الكورة او بشري او زغرتا او عكّار. ولم تعد الخصومة التاريخيّة ذات الأبعاد العائليّة والمناطقيّة تحكم العلاقات بين زغرتا وبشري.

يستريح الفريقان من هواجس متبادلة، ويتفرغان للمواجهة السياسيّة مع خصم مشترك هو "الوطني الحر".

يستطيع "القواتيون" و"المردة" حسم تلك المساحة سياسياً، من دون قدرة خصومهما على اللعب بسياسة الشمال المسيحي، فتذهب محاولات باسيل سدى في كسب النائب ميشال معوّض ضمن فريقه، وتصبح بلا قيمة سياسية ملموسة في زغرتا.

يستطيع "المردة" و"القوات" أن ينافسا "الوطني الحر" نيابياً وحكومياً، وشعبياً. خصوصا في حال كُتب لاتفاق بكركي النجاح، بعكس المصير الذي لقيه اتفاق معراب.

صار جعجع اكثر قدرة على الحركة السياسية، بعدما نجح في حياكة تفاهمات بكل اتجاه، وخلط الحسابات والتحالفات بشكل يريح البلد. وثبّت مقدرته السياسية في نسج علاقات تكتيكية مهمة. وازاء ذلك، لم يعد رئيس الحكومة المكلّف ​سعد الحريري​ مربكاً ازاء علاقته بتيار "المردة" أو بحزب "القوات" معاً.

أمّا فرنجية، فظهر كشخصية سياسية واسعة الأفق، بعد اتهامات متكررة تدّعي أنه يحصر نفسه في منطقته، وضمن بيئة مسيحيّة محدودة. تلك كانت حجة حلفائه الذين لم يصوّتوا لصالحه في الانتخابات الرئاسية. استطاع "سليمان بك" بما لديه من علاقات سياسية واستراتيجية مع سوريا وكل "محور المقاومة" أن ينسج علاقة سياسيّة جديدة مع حزب يصارع ذاك المحور تاريخياً، بالسلاح أو بالسياسة. فصار "القوات" حليف حليف سوريا و"​حزب الله​" أو صديق صديقهم. واذا كان البعض يقول ان جعجع سبق وفعلها عندما وقع اتفاق معراب، لكن تاريخ وطبيعة وسياسة فرنجية تختلف ازاء المذكورين، عن سياسات وطبيعة وتاريخ "العونيين".

لكن "المردة" يردّد دوماً، انه احترم التواصل الذي كان بدأ مع "القوات" ولم يتراجع عنه في السنوات المقبلة، فهو عقد المصالحة في بكركي، من دون مصالح تكتيكية سياسية، فلا البلد تمر بمرحلة انتخابية لا رئاسية، ولا نيابية، كما كانت ايام اتفاق "معراب"، ولا الدوافع عند فرنجية ترتبط بتلك الأبعاد. لكن "المردة" يردد ايضا انه ثابت عند قناعاته السياسيّة، وخصوصا ذات البعد الاستراتيجي منها. فلا تغيير ولا تبديل.

يعرف جعجع ذلك جيدا، ويدرك ان فرنجية لا يناور. لكن "الحكيم" يعرف ايضا ان "سليمان بك" لم يقطع علاقاته الاقليمية والعربية، لا مع السعودية ولا مع اي دولة خليجية، رغم عمق انسجامه مع دمشق وصداقته مع الرئيس السوري بشار الأسد.

قد يكون جعجع نفسه على اطّلاع، ان الدول العربية نفسها ايضا، تتجه مجددا لترتيب علاقاتها مع السوريين، في ظل كلام اميركي جدّي أن واشنطن "لا تريد ابدا تغيير الانظمة لا في سوريا، ولا في إيران، بل تغيير السلوك".

بغض النظر عن كل تفصيل ومصلحة آنية، وآتية، لقد ربح البلد مصالحة، كان يجب ان تتم منذ خروج جعجع من السجن. فتصدّر فرنجية المشهد اليوم، بعدما اقدم بشجاعة على طيّ صفحة أليمة، ونظر الى المستقبل الذي تنتظر اجياله الخروج نهائيا من خطايا الماضي، لأن أبناء واحفاد الضحايا والشهداء لا يريدون العودة الى ألم الماضي وابقاء انفسهم رهائن له.

فاز لبنان بمصالحة "المردة" و"القوات"، التي يجب ان تفتح الحوارات والنقاشات والتواصل والتحالفات، بين كل القوى في لبنان. الاختلاف السياسي طبيعي وضروري في بلد ديمقراطي، ولكن هذا الاختلاف لا يجب أن يفسد في الانتماء الوطني والسلم الاهلي قضية.