بعد مرور أكثر من شهر على جريمة مقتل السعودي ​جمال خاشقجي​ في قنصليّة بلاده في ​تركيا​، قدمت السلطات ​السعودية​ روايتها حول ما حدث داخل قنصليتها في اسطنبول، حيث وجّهت النيابة العامة أصابع الإتهام إلى 11 شخصاً من أصل 21 موقوفا في هذه القضية، مؤكّدة أن الجريمة حصلت عن غير سابق إصرار وترصّد، لكن اللافت هو تعمّدها إبعاد التهمة عن مقربين من ولي العهد محمد بن سلمان، كانت الكثير من وسائل الإعلام قد تحدثت عن دور لهم، مثل نائب رئيس المخابرات السابق ​أحمد العسيري​ والمستشار السابق ​سعود القحطاني​، وتمّ حصر تهمة الأول بأنه أمر بإعادة خاشقجي الى السعودية بـ"الرضا" أو بـ"القوّة" دون قتله، في حين أن الثاني إلتقى قائد المهمة ​ماهر المطرب​ وفريق التفاوض ليطلعهم على بعض المعلومات المفيدة بحكم تخصّصه الإعلامي، بينما أمر القتل جاء في موقع الجريمة.

وعلى الرغم من مسارعة بعض القوى الدوليّة الحليفة للرياض، مثل فرنسا وبريطانياً والولايات المتحدة، إلى تبنّي روايتها حول الحادثة، كان لافتاً الموقف التركي، بعد أن سارعت أنقرة إلى التشكيك في الرواية السعوديّة، على لسان وزير خارجيتها مولود شاويش أوغلو، الذي أكّد أن تقطيع الجثة لم يكن عفوياً، نظراً إلى إحضار فريق العمل مسبقاً الأدوات الضروريّة من أجل ذلك، ما يعني إعادة التصويب على كل من العسيري والقحطاني بشكل أساسي، نظراً إلى أن التفاوض لا يستدعي وجود الأدوات التي استخدمت في عملية التخلص من الجثّة، وبالتالي من المفترض الإنطلاق من هذه النقطة الأساسيّة، التي قد تعيد فتح الأبواب واسعاً في هذه الجريمة.

في هذا السياق، من الضروري التوقّف عند جملة من المعطيات، التي رافقت القضية من البداية، ويأتي على رأسها تجاهل السلطات السعوديّة الكشف عن مصير خاشقجي عدّة أيّام، مع العلم أن وجود فريق عمل مكلف بمهمة خارج البلاد، حتى ولو كان للتفاوض فقط، لا يمكن أن يكون دون علمها، بالإضافة إلى سعي الرئيس الأميركي ​دونالد ترامب​ إلى إبعاد ولي العهد عن دائرة الإتهام، أي السعي إلى "لفلفة" القضيّة بأيّ ثمن، بالنظر الى الإتّفاقات التي أبرمت بين الجانبين منذ لحظة وصول الأول إلى البيت الأبيض، فهو كان يؤكّد دائماً أن ما حصل لا ينبغي أن يؤثر على العلاقات الإقتصادية بين الجانبين.

بالتزامن، يأتي الموقف التركي الذي عاد، في الأيام الماضية، إلى رفع سقف مطالبه من جديد، عبر تسليم المتهمين للتحقيق معهم من قبل السلطات في أنقرة، بالإضافة إلى الإعلان عن أن إجراء تحقيق دولي في الجريمة بات شرطاً، الأمر الذي سارعت الرياض إلى رفضه على لسان وزير خارجيتها ​عادل الجبير​، ما يعني أن الحكومة التركية، حتى الآن، لا تقبل بعملية "اللفلفة" التي تحصل، وهي ستذهب حتى النهاية في الضغط للوصول إلى من أعطى الأمر، مع العلم أن العقوبات الأميركية، التي فرضت بسبب هذه الجريمة، لم تستثنِ العسيري والقحطاني.

ما تقدم يقود إلى معادلة واضحة، هي أن لا تسوية سعودية تركية أبرمت حول هذه القضية، بالرغم من أن الأبواب لم تغلق على هذا الإحتمال بعد، نظراً إلى أن أنقرة، التي تملك الكثير من المعلومات حول ما حصل، لم تعمد إلى الكشف عمّا لديها، بل هي منذ اليوم الأول تعتمد "التسريب التدريجي"، أي أنها تمارس الضغط لرفع الثمن الّذي تريد الحصول عليه مقابل إغلاق الملف، وبالتالي المواجهة، على الأقل في الأيام المقبلة، ستكون مفتوحة بين الجانبين، وربما تعمد السلطات التركية إلى الكشف عن المزيد من المعلومات التي بين يديها، مستفيدة من إهتمام معظم وسائل الإعلام العالمية، لزيادة الضغوط على نظيرتها السعودية، ولا سيما محمد بن سلمان.

في المحصلة، دخلت جريمة مقتل خاشقجي منعطفاً جديداً بعد تقديم السلطات السعودية روايتها الرسمية، عنوانها الأساسي الصراع المحتدم بين أنقرة والرياض منذ ما قبل حصول الجريمة، فهل تنجح تركيا في إبقائها في دائرة الإهتمام العالمي، خصوصاً بعد تلقف العديد من القوى الكبرى الرواية السعودية؟.