في باريس، ظهرت جبال المفارقات المؤلمةأماميهائلة بين ضفّتي البحر الأبيض المتوسط الصارخبتبديل إسمهولونهوتوسطه لكثرة ما غارت أمواجهبأساطير الفقر والخوف والغربة عن اليابسة الهشّة في ربيع الشوك العربي الطارد في الحناجر ألماًوقولاً وكتابةًفلا من يقطفه أو يحصده. هناك من راح يناقشه مجاهراً خالطاً العنف بالمقدّس والغرب والشرق والراديكالية والوسطية والجهادية بالإسلام والتعريب بالتغريب والإندماج بالتمايز ولهذا منشورات مقبلة..

تلك هي المساحة بين الشمال والجنوب بعد مئة سنة على الحرب الكونية الكبرى:عودةالعقل العربي والأوروبي الى البحث مجدّداً عن سفنٍ أوجسور جديدةنعبرفوقهاونتحاور مصدّقين بأنّ العالم قد وصل لأن يعلن نفسه قريةً واحدة ، لكنهصار مدناًوحشية التفكير والفهم والسلوكبين الواحد والآخر والثقافة والأخرى واللغة واللغة الأخرى والسحنة والسحنة الأخرى. هناك إنكماش عنصري مخيف بحثاً عن الهوية الأولى للإحتماء والإنتماء. إنّه بؤس الشمال الذي يضيق بأهله الأصليين وتتطلّع إليه نطف الشرق ولو كان غرقاً في المتوسط أو بطاقة هويّة تخرجك من العرب والإسلام. مهزلة حضارية.

أوّلاً:نعم إنّه بؤس الشمال:يكفيك ترجمة إفتتاحية Laurence Lemoine الأخيرة لمجلة"علم النفس" عدد أكتوبر 2018 ، حول الوجوه المكدّسة في حافلات المترو الباريسية المحشوّة صباحاتها بمشاعر القلق والخيبة والهموم في أجساد متراكمة وكأنّها أكياس دموع مزمنة حبيسة. الجميع في منافي سمّاعات سمّاعات الآذان وخلف الصحف والكتب ورسائل البريد والأفكار تخفي وجوهاً مليئة بالأحزان والآلام وقلوباً خافقة لبسمةٍ أو أمل ضئيل. يتشابهون في صراخ داخلي في طرقهم نحو العمل أو المستشفى متلاصقين متحاشرين يضيعون بين الوحدة والخوف والحذر من الإتّصال بالآخر. وجوههمأوسع هنا ممّ تراه من الضفة الجنوبية. هي تخفي توسلات وبحث عن إجابات ومساعدات وكلمات ومحادثات وصداقات خجولة يمكنك قراءتها. يكفيك أن تقدّم فوطة أو مقعداً لغيرك أو إبتسامةً أو كلمة ليظهر الإنسانفتحلّ اللطافة والمؤآنسة.عندها تبدأ الصباحات أكثر جمالاًوتغادر الأيام الرتيبة أقل حزناً.

أوصى إفلاطون بالبشاشة في وجه من تلتقيه لأنّ كلّ وجه قد يخفي معركة تتحوّل صداقة.

ثانياً:نقطة لقاء مضيئة جذبتني بين ضفتين:

أ- الضفة الشمالية للمتوسّط: تابعت فيهاسيلالمناقشاتوالتعليقاتوالدراسات الفرنسيةاللغويةالمشغولة أيضاًبمسألة مستقبل اللغات في العالم. يمكن إختصارهبقلق ينتاب العقل الفرنسي حيثتتّجه البشرية اليوم نحو لغة واحدةٍ أقلّ أدباً وأكثر التصاقاً بالشفاهية والسوقية، تقصر فيها الجمل كثيراً إلى درجة الصمت والإنقطاعات في الحياة كما في المساحات التي تجمع الأجناس والهويات المتنوّعة مثل حافلات المترووالقطاراتوالمدارس والجامعات.

تضمر هناك المفردات وتتنافر إلى حدود البساطة والتشاجروتقرّبها من النظرات أو الصور الخاطفة أو المغذّية للكراهية. تفرض مناخات الشبكات الدولية على الكلمات الإستقالة عن سلطاتها وجديتها بما تحمله من ثقافات وأفكار متنوعة بهدف تعميم السهولة في التلفظ والنقل والفهم. لا همّ معاصر باقٍ في اللغة إذن سوى هموم الاتصال.باتت اللغةأداة تعبير لا أداة تفكير. يعني هذا تطويع اللغات أدوات في لتحقيق أغراض الانسانوهو ما ليس جديداً إذا ما أدركنا المتغيرات المستمرة المتدرجة أو السريعة التي تلحق بها منذ النطق حيث تتفتّح جذور اللغات في التعبير عن الحاجات.

وما الاستجابات اللغويةللإحتياجات الجديدة والتطور في الفكر والمعرفة والبنى إذنإلاّ دلائل حسية على مطواعية اللغات في طبيعتها. لطالما كانت الكلمات تتغيّر في معانيها وتكتسب استخدامات متجددة، وتمّ ابتكار كلمات جديدة، وكانت تتعمق الفوارق بين اللغات الرسمية وبين لغات الأحاديث اليومية أو بين كلام الأجيال في قديمها وحديثها.

هكذا نحن اليوم في حالة تحول عالمي نحو الخيار الرقمي الذي يشكّل وجه اللغات من جديد، إلى بروز ظاهرة البحث مجدّداً عن لغة دوليّة تتشكل من التشابه الكبير الذي يتوالد ما بين العقول والأجيال والثقافات والحروب والهجرات والنزوحات وتداخل الهويات، فيربط المدركات والعقول وأدوات التعبير في تنبؤات لها نتائجها الكبرى على الخصوصيات الثقافية واللغوية.

ب- الضفة الجنوبية للمتوسط:تشعل دبي هناك مصباحاً في بلاد العرب والمسلمين مقصده الحفاظ على اللسان واللغة العربيّة ولربّما الحضارة لكنها الضائعة الهائمة في الدنيا الباحثة بدورها عن محطة.التمسّك بإندثار العربية التي تعني الإسلام والقرآن ولغة الله إذن وحمايتهما من الإنحدارات والإنهيارات الكبرى عبر أجيالنا الرقمية وألسنتهم تتشابك فيها اللغات والثقافات. الشاشات مضيئة والمواقع هناك بالإعلان عن الجوائز والمكافآت الضخمةداعية المرشحينالعرب إلى حفظ لغة العرب ولسانهم وثقافتهم المغمورة بالدماء والكوارث.

الإنسان لسان واللسان كلام والكلام لغة لها نبض أممي؟ ربّما. ماذا تفعل البشرية بالصمت؟

هل العالم، مجدداً، أمام البحث عنشكل اللغة الدولية التي قد تفرض نفسها على جميع الشعوب والعقول؟ وهل وصلنا إلى إستعادة قريبة من "أحلام" ومناقشات 1912-1913 اللغوية الخيالية التي حصلت في باريس في "الجمعية الفلسفية الفرنسية" حول المنطق بحثاً عن لغة عالمية مشتركة تحقق الاتجاهات العميقة التي يفرضها، حكماً، التطوّر البشري؟

يومها قيل إنّ لغة عامة واحدة يفرضها العقل الانساني الواحد، والانسان صاحب عقل ليس لأنّه حيوان اجتماعي وسياسي، فهو حيوان اجتماعي لأنّ له عقلاً.

تقودنا هذه الرؤية والمفارقات إلى مناقشات معاصرة من طبيعة واحدة لا تتغيّر معها الأسئلة والأجوبة إلاّ في مضامينها أو طرائقها أو المستجدات التي نحن أمامها بعد مئة سنة ونيّف. ما يتغيّر هو مدى الأخطار والمخاوف المحدقة بالمجتمعات من قبل الشركات العالمية التي تعمل جاهدة لتوحيد مضامين أسواق الحاجات والسلوك واللغات وطرائق معالجتها في المناخات الإلكترونية الذاهبة الى مئات الأقمار الصناعية حول الأرض بهدف تعميم الإتصال المجاني بين البشر في الكرة الأرضية.