لم يتأخر الاوروبيون ليلاحظوا ان ثمة ما يهدد مصيرهم في حال قررت ​الولايات المتحدة​ يوماً ما سحب البساط من تحتهم بسبب خلافات سياسية او غيرها. اللسعة الاولى التي تلقاها الاوروبيون كانت المشاكل الاقتصادية والصناعية التي وضعها الرئيس الاميركي ​دونالد ترامب​ امامهم، وألحقها بلسعة اخرى تتعلق بالتباعد السياسي العميق عنهم في ما خص الاتفاق النووي مع ايران، قبل ان يقوم بلسعة ثالثة كانت اشبه بـ"لطشة" بوجوب ان يدفع كل بلد يرغب في الحصول على الحماية الاميركية. فهمَ الاوروبيون ان اللسعة الاخيرة لم تكن بعيدة عنهم، ولو سمّى ترامب بالاسم دول الخليج وكوريا وبعض دول آسيا(كان سبق له ان دعا دول القارة العجوز الى المساهمة المالية بشكل اكبر في ​حلف شمال الاطلسي​)، واعتبروا انه لم يعد من الممكن الوقوف والاكتفاء بعدّ اللسعات التي يمكن ان يحتملوها، فقرر الرئيس الفرنسي ​ايمانويل ماكرون​ لعب الدور الريادي واستغل مناسبة ذكرى شهداء الحرب العالمية للتشديد على اهمية انشاء جيش موحد ل​اوروبا​. هذا الامر كان اكثر من كاف لاستفزاز ترامب، الذي سارع الى انتقاد نظيره الفرنسي وفتح الجراح الاوروبية عبر التذكير بأسباب الحرب العالمية ومن المسؤول عن اندلاعها.

يعلم الرئيس الاميركي ان الرابط القوي الوحيد الذي يجعل اوروبا ملتصقة بالولايات المتحدة، هو القلق والخوف العسكري منذ ايام الحرب العالمية، ورغم كل ما حصل من تطورات ونمو وتعزيزات عسكرية للدول الاوروبية، بقيت هذه الاخيرة اسيرة الماضي ورهن السراب الاميركي بأن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة المنقذة. وفي المقابل، تدرك الولايات المتحدة ان وجودها العسكري في اوروبا ضروري واساسي اذا ما ارادت الاستمرار في احتكارها للسيطرة العالمية، مع كامل الاعتبار للتهديدين الروسي والصيني في هذا السياق.

اليوم، قام ماكرون بالخطوة الاولى وحظيت بشكل فوري بمباركة المستشارة الالمانيّة انجيلا ميركل التي ترغب في محو الذكرى الماضية لالمانيا وترسيخ صورة جديدة تكون بلادها مدماكا اساسيا فيها. اللافت في الموضوع أنّ فرنسا التي انضمت الى الحلف عام 1949، غادرته في العام 1966 لتعود اليه مجدداً عام 2006 وتبقى فيه، وهذا ان دل على شيء، فعلى الرغبة الفرنسية الدفينة في الاستقلالية عن الباقين ولعب دور ريادي في اوروبا. هذا الحلم يحاول ماكرون تحقيقه اليوم ولكن الامر ليس بالسهل، ففي ظل وجود الحلف الاطلسي اولاً، والانشقاق داخل الدول الاوروبيّة ثانياً، والمشاكل الاقتصاديّة التي تعترض دول الاتحاد ثالثاً، سيكون من الصعوبة بمكان التوفيق بين هذه الدول من جهة، وانفصالها بشكل سريع عن واشنطن من جهة ثانية بسبب ان معظمها، اعتمد ولا يزال، على المبادرات والقرارات الاميركيّة كما ان التواجد العسكري الاميركي على اراضي الكثير من هذه الدول يشكل مصدر راحة كبير لها.

هذه التحديات لا تغيب عن بال ماكرون ولكنه يعلم ايضاً أنّ الوضع الحالي هو الانسب لدفع الاوروبيين الى التفكير بالاستقلاليّة عن اميركا، ان بسبب قرارات ترامب المقلقة، او بسبب الازمة الاقتصادية التي تعاني منها اوروبا واشتراط الرئيس الاميركي دفع الاموال لـ"الناتو"، فيما يقدّم الرئيس الفرنسي البديل على شكل تمويل لجيش اوروبي فاعل وحصري للقارة العجوز. ومع اليقين بأن هذا الاقتراح لا يزال مجرد فكرة، الا ان تبلورها يمكن ان يظهر سريعاً، شرط الاتفاق على الاسس والمبادىء التي سيقوم عليها هذا الجيش، وما اذا كان سيتولى مهاماً عسكرية او امنية (يتحول عندها الى شرطة اوروبية)، وفائدة حصره فقط في اوروبا دون التنسيق مع باقي الدول الصديقة، والاهم الاهم معرفة ما سيكون عليه رد ترامب على هذا القرار.

انه ميزان العلاقة بين اوروبا والولايات المتحدة، فأي كفّة سيتم ترجيحها؟.