بعد إنتهاء الحرب المُصغّرة على ​لبنان​ في العام 2006، أجرت القيادات الأمنيّة في ​إسرائيل​ سلسلة من أعمال التقييم للأداء الحربي، ومن الدراسات والتحاليل الخاصة بقُدرات ما كان يُسمّى "قُوّة الردع الإسرائيلي"، وهي حاولت اللجوء إلى قواعد جديدة في تعاملها مع المُواجهات الأمنيّة المُتكرّرة بناء على خُلاصات رفعتها لجان التحقيق العسكريّة والسياسيّة التي جرى تشكيلها. لكنّ المُواجهات التي خاضتها إسرائيل مع الفلسطينيّين خلال العقد الأخير، والتي كانت عبارة عن نماذج مُصغّرة عن المُواجهة مع "​حزب الله​"، وكان آخرها تلك التي حصلت مع غزّة الأسبوع الماضي، أثبتت تهاوي الردع الإسرائيلي. فما هي الأسباب، وما هي حسنات هذا الأمر، وما هي السيّئات أيضًا والتي يُدركها "حزب الله" تمامًا؟.

بالنسبة إلى أسباب تهاوي ما يُسمّى "قُوّة الردع الإسرائيلي"، فهي مُرتبطة بأسباب عدّة، أبرزها:

أوّلا: عدم فعاليّة ضربات ​الجيش​ الإسرائيلي-على الرغم من إستمرار إحتفاظه حتى اليوم بتفوّقه الجوّي، في تدمير البُنى التحتيّة العسكريّة السرّية وغير الظاهرة والمُشتّتة. وبالتالي، صحيح أنّ هذا الجيش لا يزال قادرًا على تنفيذ غارات مُدمّرة ضُدّ عشرات وحتى مئات الأهداف خلال وقت قصير، لكنّ الأصحّ أنّ هذا الأسلوب الذي يُمكن أن ينجح في حال كانت المُواجهة مع دولة خصم، حيث يُمكن تدمير بناها التحتيّة الكُبرى ومنشآتها الحيويّة الرئيسة خلال ساعات، لا ينجح مع حركات مُسلّحة تعتمد أسلوب القتال الإستنزافي والعمل السرّي لتحرّكاتها.

ثانيًا: تطوّر القُدرات القتاليّة للجمَاعات "المُقاومة" التي تُواجه إسرائيل، بحيث أنّها صارت تمتلك عددًا كبيرًا من صواريخ أرض–أرض بشكل يُخوّلها على الدُخول بحروب إستنزاف لفترات زمنيّة طويلة، وعددًا لا بأس به من ​الصواريخ​ المُضادة للدروع والتي تُخوّلها على مُواجهة أي هُجوم ميداني بفعاليّة أيضًا. وعلى الرغم من أنّ قُدرات "حزب الله" تفوق بأشواط قُدرات حركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي" من حيث الكميّة والنوعيّة، مع أفضليّة إمتلاك صواريخ أرض-بحر وأرض -جوّ أيضًا، فإنّ الحركات الفلسطينيّة باتت تتمتّع بالقُدرة الكافية للقتال لفترة زمنيّة كافية لإرهاق المُجتمع الإسرائيلي. كما أنّ المُواجهات الميدانية أثبتت عدم قُدرة منظومة "القُبّة الحديديّة" الإسرائيليّة في صدّ أكثر من ربع الصواريخ التي تُطلق على إسرائيل، ما يعني أنّ ثلاثة أرباع هذه الصواريخ –على الأقلّ، ستجد طريقها إلى أهدافها.

ثالثًا: تراجع ثقة الإسرائيليّين بقُدرات جيشهم، بعد أكثر من تجربة فاشلة، وعدم تقبّلهم فكرة الدُخول في حروب طويلة المدى من دون تحقيق أيّ نتائج حاسمة، علمًا أنّ كثرة اللاعبين الإقليميّين والدَوليّين رفع من مُستوى الضُغوط التي تُمارس على مُختلف الأطراف لوقف القتال بهدنة مُوقّتة وهشّة في أغلب الأحيان، أيّ من دون أيّ قواعد ثابتة لسلام طويل الأمد، كما يحصل عند وقوع الحروب بين الدول.

بالنسبة إلى حسنات تهاوي الردع الإسرائيلي، فأبرزها:

أوّلاً: عدم قُدرة إسرائيل على فرض أيّ شُروط سياسيّة لصالحها، بعد أيّ جولة مُواجهة تقليديّة كتلك التي حصلت أكثر من مرّة مع قطاع غزّة خلال العقد الأخير، مع كل تداعيات هذا الأمر السياسيّة والمعنويّة والنفسيّة على الإسرائيليّين. وجولة القتال الأخيرة مع غزّة، وما تلاها من إستقالات ومن تضعضع إسرائيلي داخلي خير دليل على ذلك.

ثانيًا: إستمرار ما يُعرف بإسم "حركات المُقاومة" في التسلّح والتدرّب، وفي تخزين الصواريخ، وفي تطوير قُدراتها القتاليّة، في ظلّ عجز إسرائيلي عن وقف هذا المنحى، بعد فرض مُعادلات قتالية في المنطقة مفادها أنّ أي عمليّة إغتيال لأحد المسؤولين أو أي إستهداف لأي مُنشآت قتالية، يُواجه بردّ صاروخي فوري. واللافت أنّ كل الوسائل التي إعتمدتها إسرائيل، في مُحاولة لوقف تنامي القُدرات القتالية لتنظيمات "المُقاومة" المُسلّحة من حملات دبلوماسيّة وسياسيّة وإعلاميّة، من ضربات إستباقيّة، وحتى من حصار ميداني، إلخ. فشلت في تغيير هذا المنحى الذي لا يصبّ في صالح إسرائيل مع مُرور الوقت.

بالنسبة إلى سيّئات تهاوي الردع الإسرائيلي، والتي يُدركها "حزب الله" تمامًا، فأبرزها:

أوّلاً: إضطرار إسرائيل في أيّ مُواجهة أمنيّة مع "حزب الله" في المُستقبل، إلى تحويل المعركة إلى حرب بين دولة وأخرى، بمعنى آخر ستكون إسرائيل مُضطرّة لضرب المُؤسّسات والمُنشآت والبُنى الحيويّة والمَركزيّة للدولة اللبنانيّة بشكل مُباشر، بهدف تأمين الضغط العالمي الكفيل بعدم تحوّل أي مُواجهة أمنيّة إلى حرب إستنزاف طويلة الأمد ضُدّها. وبالتالي، في الوقت الذي سيُحاول فيه "حزب الله" في أيّ مُواجهة مُقبلة تكرار ما حصل في "حرب تمّوز" 2006، لكن مع فعاليّة قتاليّة أفضل من السابق، ومع قُدرة أكبر على إلحاق الأذى على غير صعيد، ستعمل إسرائيل جاهدة على ضرب لبنان الرسمي بشقّيه المدني والعسكري، في مُحاولة لإستجرار تدخّلات إقليميّة ودوليّة فعّالة لوقف الحرب بسرعة.

ثانيًا: إضطرار إسرائيل أيضًا في أي مُواجهة أمنيّة مع "حزب الله" في المُستقبل، إلى تجنّب تعرّضها لهزيمة ميدانيّة ومعنويّة كُبرى، مهما كلّفها الأمر. وبالتالي، هي ستسعى إلى إستخدام كامل طاقتها القتاليّة في أقصر فترة زمنيّة مُمكنة، لمحاولة إظهار إستمرار تفوّقها العسكري الإقليمي، الأمر الذي سيدفعها إلى زجّ أكبر عدد من العديد والعتاد في المعركة، ما سيدفع مُختلف الأطراف إلى التعامل بالمثل، مع ما يعنيه هذا الأمر من تورّط الجميع في حرب كُبرى لا إراديًا!.

في الختام، الأكيد أنّ جولة القتال الأخيرة في غزّة، أثبتت مُجدّدًا فشل الوسائل التي تعتمدها إسرائيل في إستعادة قُوّة ردعها المتآكلة. والواضح أنّه ليس في مصلحة إسرائيل بعد اليوم الدُخول في أي مواجهة مع حركتي "حماس" و"الجهاد" الفلسطينيّتين، وخاصة مع "حزب الله"، ما لم تكن مُستعدّة لها مُسبقًا من الجانب اللوجستيّ، وما لم تكن جاهزة للذهاب بعيدًا في خياراتها، إن لناحية شنّ هُجوم برّي في غزّة مثلاً، أو لناحية شنّ حرب على لبنان من دولة إلى دولة، على سبيل المثال أيضًا. وعدم الإستعداد الإسرائيلي في هذا السياق، هو الذي يدفعها إلى تجنّب أي معركة واسعة مع "حزب الله" منذ العام 2006 حتى اليوم، في حين أنّ إدراك "الحزب" لحتميّة سعي إسرائيل لمُحاولة إستعادة "قوّة الردع" المَفقودة في أي مُواجهة مُقبلة معه، يدفعه إلى التروّي في الدُخول في معركة "كسر العضم" الحتميّة الآتية.