لا تزال الحكومة ال​لبنان​ية الُمنتظرة منذ أشهرٍ طويلة مجمّدة، بانتظار حسم مقعدٍ "يتيم" من دون حقيبة على الأرجح، يريده سُنّة "​8 آذار​"، مدعومين من "​حزب الله​"، ويرفض "​تيار المستقبل​" إعطاءهم إياه، من حصّته على الأقلّ.

وبين هذا وذاك، يستمرّ "​التيار الوطني الحر​" في قيادة "وساطة" للوصول إلى "حل وسط" يرضي الجانبين، بموجب "تنازلات متبادلة"، وعلى قاعدة "لا غالب ولا مغلوب"، التي اعتُمِدت في مقاربة كلّ العقد التي واجهت الحكومة.

قد يستهجن البعض أن يعطّل مقعدٌ واحدٌ، لن يقدّم ولن يؤخّر شيئاً في نهاية المطاف، الحكومة بأسرها، لكنّ الاستهجان يبقى أبعد من ذلك، فماذا لو حُلّت "العقدة" الأخيرة، بمعزلٍ عن شكل الحلّ، ووُلِدت الحكومة اليوم؟.

هل هناك من يتصوّر أنّ الأزمة ستنتهي عندها بـ"سحر ساحر"، لتبدأ مرحلة "الإنتاج" التي يتطلع إليها رئيس الجمهوريّة كما يكرّر دوماً، ومن خلفه جميع اللبنانيين؟!.

ساحة متاريس؟

لا تزال الحكومة معلَّقة على مقعدٍ واحدٍ، بعدما حصر الفرقاء أنفسهم بسقوفٍ رفعوها عن سابق تصوّر وتصميم ربما، أو من دون درس عواقب ذلك عليهم أولاً، فباتوا عاجزين عن تقديم أيّ تنازلٍ يُظهِرهم بصيغة "المهزومين" بشكلٍ أو بآخر. ولكن، أبعد من هذا المقعد، وطريقة "الإخراج" التي يمكن التوصّل إليها عاجلاً أم آجلاً لحلّ "عقدته"، وبمعزلٍ عما إذا كان "سُنّة 8 آذار" سيتمثلون في نهاية المطاف، سواء من خلال أحد نواب "اللقاء التشاوري" أو من خارجهم، يبقى السؤال، أيّ حكومةٍ تنتظر اللبنانيين؟.

الجواب بسيط، ودلّت عليه كلّ العُقَد التي واجهتها الحكومة منذ تكليف رئيسها ​سعد الحريري​ وحتى اليوم، من الدرزيّة إلى المسيحيّة مروراً بالسنّية وغيرها، والتي أكّدت بما لا يقبل الشكّ أنّ جميع الفرقاء يريدون "حصّتهم" من "قالب الحلوى"، إن صحّ التعبير، بل إنّ من لم يجرؤ على المطالبة علناً، أدار محرّكاته خلف الكواليس لجسّ نبض إمكانية انضمامه إلى "جنّة الحكم" بعيداً عن "نار المعارضة"، كما يخيّل لكثيرين.

ببساطة، توحي كلّ المعطيات المتوافرة أنّ الحكومة المقبلة، متى وُلِدت، ستكون عبارة عن "ساحة متاريس" بالمعنى الحرفيّ للكلمة، وهي التي تضمّ في صفوفها "جبهات" تبدو على أهبة الاستعداد لـ"المعركة"، التي جّهزوا لها "العُدّة اللازمة"، تحت شعار "المعارضة من الداخل"، بل إنّ الطامة الكبرى إنّ كلّ "جبهة" حاولت أن تسند نفسها سلفاً من خلال "الثلث" الذي يقرّ مراقبون كثر بأنّه كان "القطبة المخفيّة" خلف جميع العقد، ولو بشكلٍ غير مُعلَن.

وفي هذا السياق، ليس سراً مثلاً أنّ حلّ العقدتين المسيحيّة والدرزيّة ارتكز على حفاظ فريق "تيار المستقبل" و"القوات اللبنانية" و"الحزب التقدمي الاشتراكي"، أو ما يُعرَف بقوى "​14 آذار​" سابقاً، والتي لا يزال يجمعها الخط السياسي الإقليمي والخارجي، على "الثلث المعطّل"، وأنّ هذا الأمر بالتحديد هو ما يجعل الحريري مصراً على عدم تقديم أيّ تنازل "من كيسه" بما يُفقِده هذا "الثلث"، وإن كان "ضامناً" وقوف "شريكه الجديد"، أي "التيّار الوطني الحرّ"، إلى جانبه في المطبّات الكبرى.

هل تصمد؟

صحيح أنّها ليست المرّة الأولى التي يختبر فيها لبنان تجربة حكومة "الجبهات" تحت عنوان "التوافق الوطني"، بل إنّ هذا النوع من الحكومات بات هو السائد في لبنان منذ سنوات طويلة، مع استثناءاتٍ نادرة لا تزيد عن أصابع اليد الواحدة. كما أنّه سبق للحريري شخصياً أن جرّب "مُرّ" هذه الحكومات، حين أسقِطت حكومته بالضربة القاضية من "جبهة" خصومه، أو شركائه المفترضين داخل الحكومة، وفي توقيت "مُحرِج" بالنسبة له لدى زيارته الولايات المتحدة، وتحديداً أثناء لقائه الرئيس الأميركي السابق ​باراك أوباما​، الذي بدأه رئيساً لحكومة أصيلة، وأنهاه رئيساً لحكومة تصريف أعمال.

وإذا كانت الظروف التي كان يشهدها البلد في ذلك الوقت "حسّاسة" للدرجة التي انعكست شللاً واضحاً على الحكومة، فإنّ الظروف المحيطة بولادة الحكومة الجديدة لا تبدو أفضل حالاً، وسط تهديداتٍ واسعة بأنّ الوضع الاقتصادي بات على المحكّ، وأنّ انهياره قد لا يكون مستبعَداً، وفي ظلّ عقوباتٍ على "حزب الله" قد لا تكون الحكومة بمنأى عنها، من دون التغاضي عن الاستحقاقات المنتظرة سياسياً وقضائياً، من أحكام المحكمة الدولية في جريمة اغتيال رئيس الحكومة الأسبق ​رفيق الحريري​، إلى العلاقة مع سوريا في ضوء المتغيّرات الاستراتيجية الحاصلة في الميدان السوري، وغيرها.

كلّ هذه الاستحقاقات المنتظرة، على أهميتها بل خطورتها في مكانٍ ما، تتطلب حسماً واضحاً من الحكومة، وبالتالي فهي قد لا تتحمّل "المناورات" و"الشلل" الذي تنبئ به تركيبتها "الهجينة"، ما يستدعي التساؤل سلفاً عن المصير "المحتّم" للحكومة، خصوصاً في ظلّ إصرار رئيس الجمهوريّة على ضرورة أن تكون الحكومة "مُنتجة"، وهو الذي سبق أن وصفها بـ"حكومة العهد الأولى"، علماً أنّ الرئيس يؤكد في كلّ المناسبات أنّ هذه الحكومة يجب أن تكون منتجة ومثمرة، وأنّها ستولي الوضع الاقتصادي أولويتها القصوى، وستبدأ تطبيق الإصلاحات المطلوبة من لبنان في ضوء المؤتمرات التي حصلت بنيّة دعمه في الآونة الأخيرة، وفي مقدّمها مؤتمر "سيدر" الذي يخشى البعض على "تضييع" ما تحقّق فيه، إذا ما استمرّ الواقع اللبناني على حاله.

الأزمة تتمدّد

على رغم كلّ الشعارات المرفوعة، وعلى رغم النوايا التي قد تكون "صادقة"، خصوصاً من جانب "العهد"، الذي يسعى إلى تحقيق "إنجازاتٍ" تذكره بالخير، تضاف إلى تلك التي تحققت خلال العامين السابقين بدل أن تضيّعها، لا يبدو "التفاؤل" بالحكومة الجديدة في مكانه.

كلّ المؤشرات توحي بأنّ القوى السياسية الشريكة في الحكومة، والمتناحرة فيما بينها حدّ "النكاية"، باتت "جاهزة" لتعطيل أيّ مشروعٍ قد يعود بالنفع على غيرها، وبأنّها تحت شعار "التصدّي للآخر" ورفض "شهادات الزور"، ستكون "بالمرصاد" لأيّ إنتاجيّة يفتقدها اللبنانيون منذ فترة.

وفي وقتٍ يبقى الأمل بأن يكذّب السياسيون هذه الأحكام المسبقة، ولو لمرّة، تبقى الطامة الكبرى في أنّ المعارضة بدورها غائبة، أو مغيّبة، عن المشهد، باستثناء بعض الأصوات العاجزة عن إحداث الفرق المطلوب، ما يعني أن لا محاسبة ولا من يسألون...