اخذت في الآونة الاخيرة الحادثة التي شهدها بحر ازوف بين ​روسيا​ و​اوكرانيا​، منحى تصعيدياً وسط رد فعلي دولي خجول اقتصر فقط على بعض المواقف الاعلاميّة المنددة بالتصرف الروسي. وواقع الحال يشير الى أنّ روسيا قامت برد فعل تخطى العادي ازاء سلاح البحر الاوكراني، حيث جرى اطلاق نار بشكل تحذيري قبل احتجاز بعض السفن والبحارة الاوكرانيين.

قراءات عديدة يمكن ان يستوحيها المرء من هذه الحادثة، الا ان الاهم يبقى في ما تقوم به روسيا على الساحة الدوليّة، حيث انها تسعى الى ترسيخ دورها الفاعل كقطب اساسي لا يمكن تجاهله في الاحداث الاساسية. وازاء ذلك، ولان هذه الصورة تستوجب الدبلوماسية والسياسية والعسكرية، لم تتوان موسكو عن استعمال القوة مع اوكرانيا، وهي بذلك قد اوضحت، ليس فقط للاوكرانيين، بل للجميع ايضاً، انها مستعدة للقيام بمواجهة عسكرية جديدة على غرار ما قامت به مع ​جورجيا​، فيما وضعت في صندوق البريد الاوكراني تحذيراً من انها ستلاقي مصيراً مماثلاً لجورجيا وانه من الاجدر بها عدم الاعتماد كثيراً على الخارج لان احداً لن يدخل في مغامرة عسكريّة لانقاذها من محنتها. وتدرك روسيا جيداً ان اوكرانيا ليست قادرة على مواجهتها عسكرياً، وان الاوروبيين لن يقوموا بالتحرك ميدانياً للوقوف في وجه القوات الروسية، ناهيك عن ان ادارة الرئيس الاميركي ​دونالد ترامب​ بعيدة كل البعد عن خوض اي حرب او معركة كرمى لعيون احد.

ومن الواجب ايضاً التذكير بأن الارتياح الروسي نابع من عوامل اخرى غير عسكريّة، فأوروبا تتخبط في ازمة التعاطي مع الاحداث الدوليّة من جهة ومع المشكلة الاميركيّة وامكان الاستقلال عن واشنطن، كما انها تبحث عن انجع الطرق لانقاذ ​الاتفاق النووي​ مع ​ايران​ وايجاد حصة لها في ازمة الشرق الاوسط ان كان على الصعيد الفلسطيني-الاسرائيلي او على صعيد الحرب السوريّة وتداعياتها. اما على الجبهة الاميركيّة، فالوضع ليس على هذه الدرجة من التعقيد داخلياً، الا ان على ترامب ان يعيد حساباته بعد الانتخابات النصفيّة التي تنفّس من خلالها الحزب الديمقراطي الصعداء، وستكون الامور اصعب عليه بعض الشيء في التحكم بمجلسي الشيوخ والنواب، مع الاشارة الى ان الموضوع الروسي غالباً ما يسبب حساسيّة بالغة بالنسبة الى ترامب. ولم تكن قضية مقتل الصحافي السعودي جمال الخاشقجي اكثر راحة بالنسبة الى الرئيس الاميركي، فوقوفه الى جانب ولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان وتلميحه الى انه لن يتخذ اي عقوبات ضد السعوديّة في هذا المجال كي لا يخسر اموالها، عقدا الامور بالنسبة اليه مع الاميركيين.

كل هذه العوامل تصب في خانة ابعاد الضغط عن الروس الذين رسموا حدودهم الجديدة بعد ضم "​القرم​" واعتبارها بمثابة اراضٍ روسية رغم انف الجميع، و"استعراض القوة" البحريّة الذي حصل قبل ايام قليلة من الاعلان عن تجهيز المنظومة الدفاعية "اس-400" لوضعها في الخدمة على الحدود مع اوكرانيا، خير دليل على عدم تقبّل روسيا أيّ محاولة للضغط عليها او اعطاء اوكرانيا جرعة معنويات او قوة قد يسيء الاوكرانيون فهمها للاستقواء على موسكو.

ويرى الكثيرون ان قرع موسكو طبول الحرب هو من جانب واحد فقط، وليس اكثر من رسالة و"عرض عضلات" بأن الروس لن يتراجعوا عمّا يعتبرونه "حقوقهم"، وان اي تدخل خارجي في هذه الشؤون سيحول اوكرانيا الى جورجيا جديدة، لا يعود بالامكان بعدها التراجع، وقد تتحول المكتسبات الروسيّة الجديدة عندها الى امر واقع تفرضه روسيا بقواها الذاتية ولا يبقى على احد عندها سوى الرضوخ.