تتباين الآراء والمواقف إزاء إمكانية نجاح ​العقوبات الأميركية​ الأخيرة على الجمهورية الإسلامية ال​إيران​ية في تحقيق أهدافها لناحية إجبار ​طهران​ على الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع ​واشنطن​ والقبول بتقديم تنازلات تطالب بها إدارة الرئيس الأميركي ​دونالد ترامب​، وتشمل الحدّ من البرنامج الصاروخي الباليستي الإيراني والتوقف عن دعم المقاومة ضدّ الاحتلال الصهيوني ومناهضة السياسات الأميركية في المنطقة… ففي الوقت الذي يرى بعض مراكز الدراسات والمحللين والخبراء أنّ العقوبات هذه المرة ستكون أكثر تأثيراً على إيران من العقوبات التي فرضت قبل توقيع ​الاتفاق النووي​، وأنها ستجبر القيادة الإيرانية على تليين مواقفها والموافقة على الاستجابة لبعض المطالب الأميركية، يرى البعض الآخر من مراكز الأبحاث والمحللين أنّ العقوبات لن تقود إلى تحقيق ما تصبو إليه إدارة ترامب وانّ مصيرها لن يكون أفضل من مصير العقوبات التي فرضت طوال العقود التي تلت انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية على نظام الشاه…

انّ أيّ مراقب ومدقق في واقع إيران الراهن والظروف الدولية المستجدة في أعقاب توقيع الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة الستة زائد واحدا، وتلك التي كانت قائمة قبل توقيع الاتفاق يلحظ جملة من العوامل المهمة التي تجعل واشنطن غير قادرة على تحقيق أهدافها في عزل إيران واخضاعها، وتصبّ في مصلحة دعم موقف طهران الرافض للإملاءات الأميركية… وبالتالي تجعل العقوبات تواجه الفشل المحتوم.

العامل الأول: نجاح إيران في بناء اقتصاد تنموي زراعي وصناعي، وتحقيق الاكتفاء الذاتي في شتى المجالات الغذائية وصناعة الدواء بما فيها الأدوية للأمراض المزمنة من ناحية، وبناء المشروع النووي السلمي الذي مكّنها من إنتاج الطاقة النووية وتحقيق التقدّم في المجالات العلمية من ناحية ثانية، وهذا التطوّر الهام في تعزيز قدرات إيران الاقتصادية والنووية والعملية تمّ في مرحلة الحصار الاقتصادي السابق على توقيع الاتفاق النووي، ما أشر إلى فشل الولايات المتحدة والدول الغربية في تحقيق أهدافها من الحصار واضطرارها إلى الدخول في مفاوضات طويلة وشاقة مع طهران والتي انتهت إلى التسليم بما كانت ترفضه هذه الدول من حق إيران بامتلاك برنامج نووي للأغراض السلمية.. ولهذا فإنّ إيران اليوم هي في وضع أفضل على مستوى القدرة على مواجهة العقوبات الاقتصادية بنسختها الجديدة مما كانت عليه في مرحلة العقوبات السابقة..

العامل الثاني: الموقف الدولي.. قبل الاتفاق النووي ايّ في مرحلة العقوبات السابقة كان الالتزام الدولي بالعقوبات كبيراً ومدعوماً بقرارات من مجلس الأمن الدولي، وكانت كلّ من روسيا والصين تشتركان في دعم نظام العقوبات، رغم أنهما لم توافقا على بعض العقوبات غير المرتبطة بالبرنامج النووي.. أما اليوم فإنّ الواقع إنما هو على العكس تماماً، فاميركا تقف وحيدة في فرض العقوبات الجديدة من دون حتى دعم حلفائها الأوروبيين، في حين أنّ الاتفاق النووي الذي انسحبت منه واشنطن، مصادق عليه من قبل مجلس الأمن الدولي، وهذا يعني أنّ الإدارة الأميركية هي من انقلب على الاتفاق الدولي وانّ إيران تحترم الاتفاق وتحظى بشهادات ​وكالة الطاقة الدولية​ لناحية التزامها في تنفيذ بنود الاتفاق.

العامل الثالث: على عكس العقوبات السابقة، فإنّ العديد من الدول الحليفة للولايات المتحدة أعلنت عدم الموافقة على الالتزام بالعقوبات الأميركية الجديدة وفي مقدّمة هذه الدول الاتحاد الأوروبي وتركيا، في حين أنّ كلّ من روسيا والصين والهند وغيرهم من دول «بريكس» وتلك المنضوية في إطار منظمة شنغهاي باتوا أكثر رفضاً للعقوبات الأميركية لا سيما أنّ بعض هذه الدول تتعرّض لعقوبات وحرب اقتصادية أعلنتها إدارة ترامب ضدّها… وجميع هذه الدول أكدت التزامها بالاتفاق النووي.. في حين انّ الدول الأوروبية الموقعة على الاتفاق أكدت لطهران الاستمرار في تنفيذ تعهّداتها تجاه إيران التي ربطت مواصلة احترامها للاتفاق بتنفيذ هذه التعهّدات.

العامل الرابع: فشل واشنطن في فرض حصار شامل على تصدير ​النفط والغاز​ الإيراني.. واضطرار إدارة ترامب إلى استثناء ثماني دول من العقوبات والسماح لها باستمرار استيراد النفط والغاز من إيران، بعد أن تبيّن لواشنطن أنّ هذه الدول لن تلتزم بالعقوبات حتى ولو أصرّت واشنطن على إجبارها، وانّ الأفضل استثنائها حرصاً على هيبة الولايات المتحدة وعدم كسر قرارها.. وأهمّ هذه الدول هي الصين والهند وتركيا و​كوريا الجنوبية​ و​اليابان​، وهذه الدول هي الأكثر شراء للنفط والغاز الإيراني.. ما أشر بشكل واضح إلى فشل الهدف الأساسي من هذه العقوبات وهو تصفير ​الصادرات​ النفطية الإيرانية بقصد حرمان طهران من أهمّ مصدر من مصادر دخلها.

لأنّ هذه العوامل جعلت العقوبات تتعثر منذ بدء تنفيذها سارعت مجلة «فورين بوليسي» المعروفة في الولايات المتحدة إلى التنبّؤ بفشلها والقول: «بفضل استمرار واردات الصين والهند وتركيا وغيرها من الدول من هذا النفط لا يزال الإيرانيون يبيعون أكثر من مليون برميل في اليوم، أيّ أكثر بقليل مما كانوا عليه عندما تمّ رفع العقوبات الأميركية عام 2015»، وحتى ولو نجحت واشنطن في فرض حصار شامل على تصدير النفط الايراني فإنّ مثل هذه العقوبات سوف تلحق الضرر بالمصالح الأميركية في المنطقة حسب قول بوليسي، التي تحدثت عن نفوذ إيران في العراق وخطر عودة استهداف القوات الأميركية هناك، كما حصل في أعقاب احتلال العراق عام 2003.. ف​الولايات المتحدة الأميركية​ تستطيع الردّ عسكرياً ضدّ إيران والاتكال على خوفها من التصعيد الخطير. لكن يمكن لطهران كذلك الاعتماد على إرهاق واشنطن من الحرب».

غير انّ «فرين بوليسي» لم تشر أيضاً إلى قدرات إيران الصاروخية القادرة على ضرب القواعد الأميركية البحرية والبرية في المنطقة بدقة وإلحاق خسائر جسيمة بها وإقفال ​مضيق هرمز​ وما يعنيه ذلك من وقف تدفق النفط وانعكاسات ذلك على الاقتصادات الغربية.. فإيران باتت تملك قدرات ردعية هامة في مواجهة أيّ عدوان أميركي عليها والذي يمكن أيضاً أن يقود الى نشوب حرب واسعة في كلّ المنطقة تطال كيان العدو الصهيوني من إيران وجميع أطراف محور المقاومة التي لن تقف عندها خارج إطار المعركة.. وهذا أحد العوامل التي جعلت الإدارات الأميركية تمتنع عن القيام بضربة عسكرية لبرنامج إيران النووي…