قد تتباين التوصيفات لما يجري في ​فرنسا​ ويتمدد الى بلجيكا وهولاند تحت تسمية " حركة السترات الصفراء" الاحتجاجية. تباينا تجيزه طبيعة هذه التحركات واشكالها في الظاهر والجوهر مع ربطها بتاريخ العلاقات الأوربية الاميركية والدولية في القرن الأخير.

ففي مقاربة مبسطة قد نأخذ بالتوصيف الظاهر لهذه التحركات ونتقبل ما يعلنه أصحاب العلاقة المحتجين او المتظاهرين، التوصيف الذي أطلق في بداية تحركهم حيث أكدوا على طبيعتيه الاعتراضية على زيادة الضرائب وأسعار الوقود او انه احتجاج على السياسة الضريبية المعتمدة برمتها نظرا لشدة وطأتها على المكلف والمواطن في وقت يشهد فيه الاقتصاد الأوربي تراجعا او ضمورا.

لكن هذا التوصيف الاولي على واقعيته و أهميته ، يبدو قاصرا عن تفسير ما تطورت اليه الحركة الاحتجاجية وما وصلت اليه من دعوة أصحابها الى اقالة رئيس الدولة و أسقاط حكومته دعوة اقترنت مع العنف غير المبرر في التظاهر المدني السلمي ما يجعلنا نفكر بان الاحتجاج و التظاهر الذي لم ينحصر في نقطة او مدينة قد يكون ابعد بكثير من مجرد الاحتجاج على مسالة معيشية او ضريبية ، وانه يتعدى الظاهر المالي ليصل الى المستوى السياسي السيادي و الاستقلالي العام للدولة و علاقاتها التحالفية و الاستراتيجية ، وهنا قد نذهب الى احد تفسيرين متناقضين :

الأول : يمكن ان يرى في التحرك بعدا وطنيا سياسيا اتخذ من الواقع المعيشي الضريبي منطلقا محركا او مدخلا للولوج الى حالة تمكن من إعادة النظر بالواقع السياسي و بعلاقات فرنسا مع الخارج الأوربي او الأميركي و نزعة لتحقيق الاستقلال الفعلي للدولة و الانفكاك عن الهيمنة الأميركية خاصة بعد الضغط و الفوقية الأميركية التي تمارس منذ فترة ضد اروبا و التي كان اخرها طلب ترامب من اروبا دفع المال لتغطية النفقات العسكرية للناتو الذي يقوم ظاهرا بمهمة الدفاع عن اروبا (المهمة التي انتفت اليوم ) و لكنه ينفذ او اقله نفذ سابقا مهام خارج اروبا خدمة للسياسة الأميركية . .

اما التفسير الثاني فهو نقيض الأول و يذكر بما يروج في بلادنا من "نظرية المؤامرة " الخارجية و يقول بان التحرك قد يكون نتيجة عبث جهة اجنبية تريد الضغط على بعض الانظمة الأوربية و على الاتحاد الأوروبي برمته ، خاصة بعد ان بدأت تلك الأنظمة تظهر تململا من السياسة الأميركية و تتجه لاقامة اطار اروبي مستقل عن القرار الأميركي متفلت من السيطرة و الهيمنة الأميركية خاصة و ان هذه الاحتجاجات جاءت بعد أيام على الطرح الفرنسي الذي دعمته المانيا لانشاء "جيش اروبي" مستقل للدفاع عن اروبا بوجه اميركا و روسيا و الصين ، جيش يمكن اروبا من الاستغناء عن الحلف الأطلسي "المنتهي الصلاحية " و الثقيل الأعباء ، كما و يمكن اروبا من الاستغناء عن الصناعة العسكرية الأميركية والتوقف عن جعلها سوقا استهلاكية للسلاح الأميركي.

فأي من هذه التفسيرات أقرب للواقع، ثم ما هي النتيجة المحتملة لهذه "الحركة الصفراء"؟ خاصة وانه على كل تفسير سيتوقف توقع مسار الاحداث وتاليا مستقبل اروبا التي سيساهم بشكل او باخر في صياغة النظام العالمي قيد التشكل هذا النظام الذي ولد من الرحم السوري ويستمر بالنمو والتكامل اليوم دون ان يصل في الحقيقة الى مرحلة التشكل النهائي والاستقرار الناظم للعلاقات الدولية.

ان الإجابة على ما تقدم لا يمكن ان يكون بدون عودة الى التاريخ، تاريخ العلاقات الدولية المتصلة بأروبا والحلف الأطلسي كما وتاريخ النظام الفرنسي القائم – نظام الجمهورية الخامسة نشأة وتقلبا، وعلاقة فرنسا الزئبقية أيضا مع اميركا.

نبدأ مع الناتو ونذكر بانه بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وزوال الخطر الشيوعي عن اروبا طرحت أسئلة كبرى حول مصير الحلف الأطلسي ومهامه وبنيته وهيكليته، حيت ان هذا الحلف أنشئ في الأصل من طبيعة دفاعية لمواجهة الخطر الشيوعي والاتحاد السوفياتي، وكان من المنطقي باعتباره حلف دفاعيا ان تنتفي الحاجة اليه مع زوال الخطر الذي أنشئ من اجل اتقائه. لكن اميركا التي سارعت الى استثمار نجاحها في تفكيك الاتحاد السوفياتي و الاجهاز على النظام العالمي القائم على الثنائية القطبية يومها ، اميركا هذه فرضت على الحلف "مهمة الامر الواقع " و اتخذته و من غير تعديل في اتفاقية انشائه ، اتخذته كإحدى ادواتها لاقامة النظام الأحادي القطبية ، ووجد الأوربيون انفسهم مجرورين الى حروب عبر البحار ليس لهم شان فيها او من مردودها حيث انها حروب من اجل اميركا التي ابتدعت عدوا صنعته بنفسها و جعلت مهمة الحلف الرئيسية ملاحقته ليس في اروبا او اميركا بل و بعيدا عنهما في مناطق التصنيع و التمركز .

لقد أخرجت اميركا من اروقتها الاستخبارية ما اسمته "الإرهاب" (بمفهومها هي المغاير للمفهوم الموضوعي ) و فرضت على الحلف الأطلسي محاربته و فقا لخطتها هي و دون اي تعديل لاتفاقية الأطلسي ما جعل اروبا تتململ و تان و تتلكأ عن تلبية الطلبات الأميركية (عجزت اروبا عن تامين 10 الاف جندي لصالح ميدان افغانيتان ) ما حمل وزير أميركي اروبا على وصفها ب"القارة العجوز" ملمحا الى ان هذه القارة لن تكون كما اراده من كان وراء انشاء الاتحاد الأوربي حيث ظن بان هذا الاتحاد سيكون في يوم من الأيام المنافس الندي للولايات المتحدة الأميركية و ان تكون عملته (اليورو ) العملة العالمية التي تنافس الدولار او قد تتخطاها في السوق العالمي .

وقبل سنتين قررت بريطانيا الخروج من الاتحاد الا روبي والعودة الى وضعية تسمح لها بالتخفف من أعباء الاتحاد ومتطلباته وتتيح لها العمل مع اميركا في إطار المحور الانكلوسكسوني العالمي وفي إطار متعدد العناوين سياسية اقتصادية وعسكرية. فاستشعرت فرنسا والمانيا من السلوك المتقدم الذكر سلبية على الاتحاد وعليهما بالذات كونهما تشكلان فعليا الرافعة او العمود الفقري لهذا الاتحاد الذي ما كان له ان يقوم لو لا تلك المصالحة التاريخية بين المحور الجرماني والمحور اللاتيني، هذه المصالحة التي رمت الى إقامة اروبا القوية التي يمكن ان تستغني عن المساعدة الأميركية في الدفاع، وان تتفلت من الهيمنة والتبعية الأميركية في السياسة والاقتصاد.

في ضل هذه الوقائع جاء الطلب الأميركي الأخير من اروبا لزيادة انفاقها في الناتو معطوفا على تصرفات ترامب الحادة التي لا تعير أهمية او اعتبار للمصالح او المواقف الأوربية و قرر ترامب فرض ضرائب على المستوردات الأوربية ثم قرر الخروج من الاتفاق النووي مع ايران رغم الرفض الروبي او الاعتراض الأوربي على هذا القرار ثم كان الموقف الفرنسي المؤيد من قبل المانيا في موضوع الدعوة الى جيش اروبي مستقل ، كل هذا يجعلنا نظن بان اميركا قد تكون حاولت الرد على طريقتها "التأديبية " ضد هذه النزاعات الأوربية الاستقلالية ، ما يجعلنا نرى للتفسير الثالث – أي اليد الأجنبية- انه تفسير ممكن القبول به خاصة اننا لا يمكن ان ننسى ما حصل لديغول في العام 1968 بعد ادانته للعدوان الإسرائيلي على العرب في العام 1967 .

ومع هذا فاننا لا يمكن ان نتجاوز او نسقط أهمية الاحتمالين الاخرين الذين يتمحوران على حراك داخلي بدوافع وطنية فعلية لا يد خارجية فيها، خاصة وان الدينامية الفرنسية او الحيوية السياسية لفرنسية التاريخية تقدم شواهد كثيرة على ان الشعب الفرنسي لا يتخلى عن مسؤولياته السياسية في مراقبة السلطة خاصة إذا كان أداء السلطة يمس بحقوق المواطن المعنوية او المادية،

وهنا فاذا كان التفسير الضيق الذي يحصر الموضوع بالمسالة المعيشية هو الصحيح فان الحل سيكون كما نعتقد عبر مراجعة رسمية للقرارات الحكومة ومعالجة سعر الوقود، بشكل يرضي الشرائح الريفية التي تضررت من رفع أسعار الوقود، وفي هذا طي سريع للصفحة وبقاء الحال الدستوري على حاله دون المس بالرئيس والنظام

اما إذا كان الحراك نتيجة تطلع فرنسي لمراجعة الدستور القائم فستكون فرنسا امام تعديل دستوري جديد يضع حدا للجمهورية الخامسة التي قامت في العام 1958 وكان ديغول الرئيس الأول فيها فهل ستكون فرنسا على عتبة الجمهورية السادسة؟ اما إذا لم يكن هذا ولا ذاك فلننتظر اذن شتاء اروبي قاسيا ثم البحث عما إذا سيكون لأروبا موقع مؤثر على خريطة العالم ضمن مجموعة القوى الدولية الفاعلة في إطار النظام العالمي المتعدد المجموعات الاستراتيجية!