من خارج التطورات المحسوبة، وفيما كان ​لبنان​ منهمكاً بلملمة ذيول حادثة الجاهلية وتبعاتها التي لم تنتهِ فصولاً على الداخل اللبناني، جاءت عملية "درع الشمال" التي أطلقها ​الجيش الإسرائيلي​، لتدمير ما ادّعى أنّها "أنفاق هجومية" بناها "​حزب الله​" في المنطقة الحدوديّة، لتحوّل الأنظار إلى الوضع جنوباً، وسط مخاوف من أيّ انزلاقٍ إلى "مواجهة"، محسوبة كانت أم لا.

وفي وقت لم يكن مستغرباً التزام "حزب الله" الصمت إزاء التحرّكات الإسرائيلية، ولا إعلان الولايات المتحدة "دعمها القوي" للعملية الإسرائيلية، كثرت التفسيرات والتحليلات وربما التكهّنات لأبعاد ما حصل، خصوصاً أنّ عملية "درع الشمال" جاءت بعد أسابيع على مزاعم إسرائيلية أخرى حول وجود صواريخ بعيدة المدى في محيط مطار بيروت، في تسلسلٍ قد لا يكون "بريئاً".

وإذا كان لبنان الرسمي تحرّك سريعاً لاحتواء ذيول العملية الإسرائيليّة، وسط "تطمينات" حرص الجيش اللبناني على تقديمها لجهة "جاهزيته التامة لمواجهة أيّ طارئ"، تُطرَح علامات استفهام بالجملة حول ما حصل، فهل هو مجرّد "استعراض إعلامي" كانت إسرائيل بحاجة إليه في هذه المرحلة، أم أنّه يمهّد في مكانٍ ما لـ"مواجهة شاملة" قد تكون أقرب ممّا يخال كثيرون؟.

فتش عن نتانياهو

قد لا يكون جديداً أن تلجأ إسرائيل إلى التصعيد مع لبنان، فعلى رغم "الهدنة" المعمول بها منذ زهاء 12 عاماً، وبالتحديد منذ انتهاء ​حرب تموز 2006​، بموجب ​القرار 1701​، الذي تخرقه إسرائيل على مرأى ومسمع العالم بصورة يوميّة من دون حسيب أو رقيب، لم تغب يوماً "الاستفزازات" الإسرائيلية، إن جاز التعبير، خصوصاً على الصعيد الإعلامي، ما كان يضعه المعنيّون دائماً في إطار "الحرب النفسية" مع "حزب الله".

وإذا كانت كلّ الاستفزازات السابقة بقيت محصورة في الجانبين الإعلامي والنفسي، من دون أن تؤدي إلى مواجهة عسكرية لم يكن أحد يريدها أو يتوسّلها، فإنّ شيئاً مختلفاً ظهر هذه المرّة، إذ إنّ الجيش الإسرائيلي لم يكتف بالتصريحات، بل أطلق عملية عسكرية، أوحى البعض أنها جاءت بالتنسيق مع الولايات المتحدة التي لم تتأخر في دعمها، علماً أنّ ثمّة من ربط بين ذلك وتوقيتها، باعتبارها أتت بعد ساعات من لقاء رئيس الحكومة الإسرائيلية ​بنيامين نتانياهو​ مع وزير الخارجية الأميركي ​مايك بومبيو​ في بروكسل. وذهب الإسرائيلي أبعد من ذلك بزعمه اكتشاف "أنفاق" تصل بين الأراضي اللبنانية بالشمال الاسرائيلي، محمّلاً الحكومة اللبنانية مسؤولية ما وصفه بخرق القرار 1701، وبالتالي أيّ تبعاتٍ محتملة لذلك.

وعلى الرغم من "الجدية" التي حاول الإسرائيليّ إحاطة عمليته بها، إلا أنّه لم يترجمها "استنفاراً" أو "تأهّباً" لقواته، بدليل عدم إعلانه وجود أيّ "تهديد مباشر" على داخله، وعدم دعوته لسكان المستوطنات للنزول إلى الملاجئ كما يفعل كلما لاح له وجود أيّ خطر ولو بدرجة ضئيلة، وهو ما يغلّب نظرية "الاستعراض الإعلامي" على غيرها خلف ما حدث، نظرية قد يؤكدها الوضع الذي يمرّ به نتانياهو في الفترة الحالية، والذي يسعى إلى الهروب إلى الأمام، وتحقيق أي "إنجاز" ولو "صورياً" فقط لا غير.

وفي هذا السياق، لا يبدو مبالَغاً به اعتبار العملية محاولة من نتانياهو لحرف الأنظار عن فضائح الفساد والرشوة التي باتت تشدّ الخناق على رقبته، خصوصاً في ضوء حديث بعض الإعلام الإسرائيلي عن أنّ موقعه بات مهدَّداً مع دخول القضايا المرفوعة ضدّه مرحلة مفصليّة، وعلى وقع الدعوات إلى انتخابات مبكرة لا يريدها نتانياهو، ولا يعتبر أنه جاهز لها أصلاً.

الردّ اللبناني المفترض

أكثر من ذلك، ثمّة من يقول إنّ رئيس الحكومة الإسرائيلية الذي لم يعيّن بديلاً لوزير الدفاع الإسرائيلي المستقيل ​أفيغدور ليبرمان​، ليتسلّم بنفسه زمام الحقيبة الأمنية الحسّاسة في الوقت المستقطع، يريد أن يقول إنّه حقّق شيئاً ما يمكنه أن يستثمره انتخابياً وشعبياً، خصوصاً بعد الخسائر التي مني بها في غزة أخيراً، وسط حديث عن "تهدئة مستدامة" في القطاع، كانت أصلاً خلف قرار ليبرمان الاستقالة.

على رغم كلّ ما سبق، يبقى الثابت أنّ أحداً لا يستطيع أن يضمن تطور الأمور، وأنّ كلّ الاحتمالات تبقى واردة، بما فيها انزلاق الأمور إلى مواجهةٍ، ولو كان كلّ الأطراف المعنيّة بها يرفضونها حتى الساعة، لاعتباراتٍ وحساباتٍ أكثر من أن تُعَدّ وتُحصى. فكيف يفترض أن يتعامل لبنان مع هذه التطورات، سواء على المستوى الرسمي، أو على مستوى "حزب الله" الذي لا يزال صامتاً إزاء كلّ ما يحصل؟ وهل يكفي أن يكون الجيش اللبناني جاهزاً لمواجهة أي طارئ، وفق ما أعلن في بيان رسمي، لتحصين الواقع اللبناني إزاء أي "مغامرة غير محسوبة" قد يقدم عليها الإسرائيلي، بدعمٍ دوليّ؟.

الأكيد أنّ ذلك لن يكون كافياً، في ظلّ التركيبة اللبنانية الحالية "الهشّة"، ووسط خضّات أمنية كالتي وقعت في الجاهلية قبل أيام، والتي كادت أن توقع البلاد في المجهول الذي قد يكون أقصى ما يتمناه الإسرائيليّ اليوم، وفي ظلّ حكومة تصريف أعمال محدودة الصلاحيّات وغير قادرة على المواجهة، فيما يتجمّد تشكيل الحكومة الجديدة التي لا تبشّر بالخير، بسبب حقيبة بالزائد أو بالناقص تُحتسَب من حصّة هذا الفريق أو ذاك.

وإذا كانت كلّ الدول تلجأ إلى "حكومات الوحدة الوطنية" في مراحل الأزمات والحروب، فإنّ التطورات الحاصلة في المنطقة الحدودية يجب أن تحضّ المعنيّين إلى تشكيل الحكومة اليوم قبل الغد، ليس لأن الحرب باتت وشيكة، وهو احتمال لا يزال ضعيفاً، ولكن لأنّ وجود الحكومة يمكن أن يشكّل "الحصانة" التي يحتاجها لبنان، إما للقضاء على فرصة الحرب نهائياً، أو لتعزيز القدرة على الصمود في حال نشبت أيّ مواجهة، محدودة كانت أم واسعة.

اليوم قبل الغد!

انطلاقاً من كلّ ما سبق، لا يخفى على أحد أنّ احتمال الحرب الإسرائيلية على لبنان في هذا التوقيت ضعيف جداً، وأنّ معظم التحليلات لعملية "درع الشمال" تضعها في إطار "الاستعراض الإعلامي" الذي قد يكون رئيس الوزراء الإسرائيلي أكثر من يحتاجه اليوم، لاعتباراتٍ خاصة قبل كلّ شيء.

ولكن لا يخفى على أحد أيضاً في المقابل، أنّ على الأفرقاء في لبنان أن يأخذوا العبرة من كلّ ما حصل ويحصل، وأن يدركوا أنّ أيّ "تنازل" يمكن أن يقدّموه لتشكيل الحكومة لن يكون خسارة بأيّ شكلٍ من الأشكال، بل قد يكون "انتصاراً"، لأنّ تأليف الحكومة اليوم قبل الغد بات "واجباً" على المعنيّين، بعيداً عن كلّ الحسابات التي يصحّ وصفها بـ"التافهة" في ضوء التحديات المرتقبة، أمنياً واقتصادياً وسياسياً...