يكاد المخزون الاحتياطي من الصبر يَنضب لدى الرئيس ​ميشال عون​، الذي لم يعد في استطاعته الاستمرار في التفرّج على عهده وهو ينزف من دون أن يحرّك ساكناً. صحيح انّ الدستور لا يمنح رئيس الجمهورية أسلحة حاسمة في مواجهة المراوحة الحكومية، لكنّ عون، «الغاضب»، يبدو عازماً على تجميع ما أمكن من عناصر القوة لاستعادة المبادرة وتخفيف كلفة الوقت الضائع.

يشعر عون أنه منح الرئيس المكلّف سعد الحريري فترة طويلة من السماح والتسامح، على حساب صورة العهد ورصيده الآخذ في التآكل تحت وطأة العجز عن تشكيل الحكومة منذ نحو 7 أشهر، فيما الازمات والتحديات، على اختلافها، تتفاقم وتتراكم.

يدرك رئيس الجمهورية انه في مرمى الأنظار والانتظارات بحكم التوقعات المرتفعة السقف التي واكبت وصوله الى قصر بعبدا ربطاً بشعار «التغيير والاصلاح» المُذيّل بتوقيعه، وان تكن الصلاحيات الموجودة في حوزته لا تتناسَب أصلاً مع حجم رهانات البعض عليه.

وأمام ما هو مُنتظر منه، يؤكد زوّار عون أنه لم يعد يتحمّل البقاء طويلاً، مبتور القدرة، من دون ذراع تنفيذية قوية تتمثّل في حكومة تجمع بين الحليف الاستراتيجي («حزب الله») وحليف التسوية الكبرى (تيار «المستقبل»)، وتتولى التصدي للملفات الضاغطة قبل فوات الأوان، خصوصاً انّ حبل الاستحقاقات الداهمة يَلتفّ شيئاً فشيئاً حول عنق العهد ورقاب اللبنانيين، مع كل يوم يُهدر في المماحكات السياسية العبثية.

إزاء هذا الواقع، قرّر عون أن يبدأ هجومه المضاد بإطلاق «رشقات» تحذيرية فوق «بيت الوسط»، ملوّحاً بإمكان توجيهه رسالة الى مجلس النواب حول تَعثّر مسار التأليف وما يُرتّبه ذلك من مسؤوليات وواجبات. يعرف رئيس الجمهورية أنّ الآليات الدستورية لا تسمح بسحب التكليف من الحريري، لكنه أراد ممارسة نوع من الضغط المعنوي والسياسي على الرئيس المكلف لدفعه الى التعجيل في تشكيل الحكومة، وإفهامه أنّ كَيل رئيس الجمهورية يكاد يطفح.

وأكثر ما يزعج عون هو انّ الحريري لا يكفّ عن رفض الإقتراح تلو الآخر لمعالجة العقدة السنية، من غير ان يقدّم في المقابل أي بدائل عملية، مُكتفياً بالتمترس خلف معادلة جامدة قوامها اللاءات الآتية: لا اعتذار ولا تأليف ولا تنازلات!

وما يزيد الاحساس بالمرارة والضيق لدى عون هو انه فعل كل شيء لتقوية الحريري وحمايته، في مواجهة الأقربين والأبعدين على حد سواء، بينما يبدو انّ الرئيس المكلف لا يتعامل معه بالمِثل. يشير القريبون من رئيس الجمهورية الى انه «دافعَ بشراسة» عن الحريري إبّان أزمته في الرياض، وأصَرّ على ان يحمي التسوية والشراكة معه، وهكذا كان. ثم لم يتردد لاحقاً في تأكيد الحاجة إليه كرئيس قوي للحكومة عندما لمسَ أنّ «حزب الله» ربما يحاول إضعافه، لافتاً انتباه «الحزب» بصراحة وعلنية الى وجوب ألّا يُغَلّب «التكتكة» على الاستراتيجية.

ولا يزال عون عند قناعته بضرورة عدم استضعاف الحريري او كسره، إنسجاماً مع مبدأ حكم الأقوياء الذي ينادي به لضمان التوازنات الميثاقية، لكنه مقتنع في الوقت نفسه بعدم أحقية احتكار الحريري أو اختزاله للطائفة السنية، شأنها شأن الطوائف الأخرى التي ستحضر في الحكومة المقبلة بتمثيل وزاري متنوّع، ترجمة لمفاعيل اعتماد قانون النسبية في الانتخابات النيابية الاخيرة.

وعليه، يعتقد عون انّ بداية الحل للعقدة السنية تكمن في أن يحرر الحريري نفسه هذه المرة من «الاحتجاز الطوعي» خلف قضبان العناد السياسي، وبالتالي أن يعترف بمبدأ تمثيل السنّة المتمايزين عنه ليبنى على الشيء مقتضاه، مع الأخذ في الاعتبار انّ توزير ممثل للرئيس نجيب ميقاتي لا يَفي بالغرض، أمّا مواصلة رفض العروض الهادفة الى تسهيل تشكيل الحكومةن وآخرها صيغة الـ32 وزيراً، فستتسَبّب في مزيد من الاستنزاف للعهد ولمصالح اللبنانيين الحيوية، الأمر الذي لن يقبل به رئيس الجمهورية حُكماً، وفق تأكيد العارفين.

ويكشف القريبون من عون انّ جعبته تحتوي «خيارات قصوى» يصل «عصفها السياسي» الى ما بعد بعد «الرسالة الرئاسية» المفترضة، وانه قد يضطر الى استخدام أحدها إذا فشلت محاولات المعالجة ومساعي الحضّ، موضِحين انه في حال أخفقَ النقاش مع الحريري في تحقيق نتيجة إيجابية، سيخاطِب عون مجلس النواب، فإن استمرت الازمة بعد ذلك، سيستخدم الحد الأقصى من صلاحياته للتعويض عن غياب الحكومة، وبالتالي سيمارس السلطة التنفيذية حتى آخر الحدود المسموحة له.

ويلفت هؤلاء الى انّ القصر الجمهوري سيتحول عندها «خلية نحل» لإدارة شؤون الدولة والمواطنين وتحريك المؤسسات الرسمية، ولن يقتصر هامش التحرك على دعوة مجلس الدفاع الأعلى الى الانعقاد او الاجتماع مع وزير المال وحاكم مصرف لبنان، كما حصل سابقاً، بل انّ عون سيوَسّع نطاق تسييل سلطته التنفيذية مُستفيداً من تجربته خلال أزمة الحريري في السعودية، «ومَن يظنّ أنّ رئيس الجمهورية هو رئيس جميعة «الحَبَل بلا دَنَس»، يكون مخطئاً كثيراً ولا يعرف ميشال عون جيداً».

على الضفّة الأخرى، ينتظر عون من «حزب الله» ايضاً ان يُبدي بدوره قدراً أكبر من المرونة والبراغماتية في التعاطي مع مقتضيات تسوية العقدة السنية، مُنطلقاً من انّ حليفه الاستراتيجي في السراء والضراء حريص على إنجاح العهد وتحصينه، ما يستدعي منه المساهمة في تسهيل الوصول الى مخرج مقبول يُفرج عن الحكومة والحكم. ويتوقع عون من «الحزب» أن يتعامل معه كما فعل وليد جنبلاط، في الحد الادنى، حين وضع الحل للعقدة الدرزية في تصرّف رئيس الجمهورية وفَوّض إليه معالجتها تِبعاً لِما يعتقد «جنرال القصر» أنه مناسب. وهناك، ضمن محيط عون، من يتحمّس لاستنساخ هذه التجربة، داعياً «الحزب» الى مصارحة متبادلة مع رئيس الجمهورية تنتهي بائتمانه على تسوية العقدة السنية تحت سقف إرضاء الحريري و»اللقاء التشاوري». ويعتبر أصحاب هذا الرأي انّ تركيبة لبنان لا تتحمّل أي تصرّف يوحي أنّ طائفة فرضَت وزيراً على طائفة أخرى، مشددين على انّ المطلوب من الحريري و»حزب الله» هو تسهيل دور عون، الساعي الى رَدم الفجوة الحكومية بحلّ واقعي.

ويؤكد العارفون انّ عون مصمّم على مَنع اختراع أيّ أعراف خاطئة في التأليف، خصوصاً انّ الحكومة التي يجري تأليفها حالياً تأتي بعد أول انتخابات نيابية وفق النظام النسبي، ما يستدعي تجنّب اعتماد أعراف ملتبسة قد تكرّس خللاً مُستداماً ما لم يتمّ لجمها، وهو يستغرب كيف انّ «اتفاق الطائف» باتَ يُضرَب من بيت أبيه، في حين انّ مَن كان معارضاً له أصبح المتمسّك بتطبيقه تِبعاً للأصول.