بمجرّد أن نُقل عن رئيس الجمهورية ​ميشال عون​ نيّته توجيه رسالة إلى ​مجلس النواب​، بمقتضى الصلاحيات الدستورية الممنوحة له، ونظراً للتأخير الحاصل في تأليف الحكومة، والمعوقات التي يصطدم بها الاستحقاق الذي تجاوز "مهلة السماح" بأشواط، وبات يهدّد البلاد والعباد، حتى ثارت ثائرة الكثيرين، وانطلق التحذير والتهويل من الخطوة، التي يمكن أن تشكّل "سابقة" في مرحلة ما بعد الطائف.

ولعلّ ما فاقم من حراجة الموقف ذهاب البعض إلى حدّ "التكهّن" سلفاً بأنّ الرسالة الرئاسيّة قد تمهّد لإعادة النظر بتكليف رئيس "​تيار المستقبل​" ​سعد الحريري​ ​تشكيل الحكومة​، وهو ما رأى كثيرون أنه ينطوي على مخالفة "فاقعة" للدستور، الذي لم ينصّ في أيّ من بنوده لا صراحةً ولا تلميحاً إلى وجود مثل هذا المعطى، أو حتى إلى إمكان تقييد رئيس الحكومة المكلف بأيّ مهلة لإنجاز مهمّته، ولو بقي يؤلف حكومته مدى العمر.

إزاء كلّ ما سبق، هل هناك مسعى جدّي لـ"إقصاء" الحريري من المشهد الحكوميّ؟ ومن يقف خلف هذه المحاولات إن وُجِدت؟ وهل من بدائل "واقعية" أصلاً للرجل؟

رسالة حثّ؟!

مع أنّ المكتب الإعلامي لرئيس الجمهورية نفى "دقّة" الكلام الذي تسرّب الأسبوع الماضي عن نيّته الطلب من رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري الاعتذار، بعد عجزه عن تأليف حكومة خلال سبعة أشهر، إلا أنّ البيان الذي أصدره ترك باب التفسيرات والتحليلات مفتوحاً على مصراعيه، خصوصاً أنّه أكد حق الرئيس بوضع "التعثر في تشكيل الحكومة، في عهدة مجلس النواب، ليبنى على الشيء مقتضاه"، خصوصاً أنّ البرلمان هو "صاحب حق تسمية الرئيس المكلف تشكيل الحكومة" بمقتضى الدستور.

ولأنّ ردّ رئيس الحكومة لم يتأخّر، على رغم إقراره وعلى لسان مصدر مقرّب منه، بأنّ الحق الدستوري لرئيس الجمهورية بتوجيه رسالة إلى المجلس النيابي، "صلاحية لا ينازعه عليها أحد، ولا يصحّ أن تكون موضع جدل أو نقاش"، فإنّ التفسيرات المتناقضة اتّسعت أكثر فأكثر، لتنذر بصراعٍ جديدٍ على الصلاحيّات بين عون والحريري، وتضع "التسوية الرئاسيّة" التي أبرمت بين الجانبين قبيل انتخاب عون رئيساً للجمهورية على المحكّ من جديد، وهو ما "فضحته" تصريحات قياديّي "تيار المستقبل" خلال الساعات الماضية، وبعضهم لم يتردّد في التصويب على رئيس الجمهورية على خلفيّة خطوته المنتظرة، جازماً في الوقت نفسه بأنّ الحريري "لن يعتذر" مهما اشتدّت الضغوط.

إلا أنّ هذا "المنطق" اصطدم بوجهة نظر أخرى تقول بأنّ الرسالة "الرئاسية" إن وُجِدت، لن تكون سوى خطوة "دستورية" يقوم بها رئيس الجمهورية الذي يسعى لاستنفاد كلّ الصلاحيات الدستورية الممنوحة له ليقول إنّه يحاول القيام بشيءٍ ما لكسر الجمود الحاصل. ويستهجن هؤلاء حجم الهجوم الذي تعرّضت له الخطوة الرئاسية في "حكم مُسبَق على النوايا"، في وقتٍ يمكن أن تكون رسالة حثّ لكلّ المعنيّين بالحكومة للتحرك الفاعل، بمعنى أنّها مجرّد محاولة لتوسيع النقاش أكثر، لعلّ ذلك يمكن أن يفضي إلى حلّ يضع حداً للمماطلة والتسويف الحاصليْن، واللذين لم يعد من الممكن السكوت عليهما.

يقصي نفسه بنفسه؟!

وإذا كان الصراع المستجدّ أتى متزامناً مع موجة جديدة من النقاش عن وجود "بدائل" من عدمه، في وقت لفت الحديث الذي انتشر حول طرح اسم النائب ​فيصل كرامي​ مثلاً كبديلٍ مُحتمَل، اعتبر المعنيّ به أنّه لا يزال "سابقاً لأوانه" من دون أن ينفيه، فإنّ معطيات كثيرة تشير إلى أنّ رئيس الجمهورية، ومن خلفه "التيار الوطني الحر"، ليس في وارد التخلّي عن الحريري أصلاً في هذه المرحلة، ما سيضرب "التسوية الرئاسية" في الصميم، ويجعل العهد "المتضرّر الأول"، حتى قبل الحريري نفسه.

ولعلّ نظرية "العهد القوي" وحدها كافية لتبرير تمسّك رئيس الجمهورية بالحريري، انطلاقاً من إقراره بأنّه "القوي في طائفته"، ما يدحض فكرة وجود مسعى جدّي للإطاحة به، على الأقلّ من جانب "العهد" والمحسوبين عليه، بمعزلٍ عن مواقف بعض الأفرقاء الآخرين من حلفاء "التيار"، وخصوصاً في "​8 آذار​". إلا أنّ هناك داخل "التيار" وخارجه من يعتبر أنّ الحريري هو عملياً من يقصي نفسه بنفسه، من خلال طريقة تعامله مع الملف الحكوميّ، وإصراره على تجاهل "العقدة السنية" التي يصفها بـ"المفتعلة" وكأنّها غير موجودة، وانتظار "الحلّ السحري" من دون أن يقدم على أيّ خطوة مهما كانت صغيرة، على غرار مجرّد عقد اجتماعٍ مع النواب المعنيّين بالعقدة، والذي عمل وزير الخارجيّة في حكومة تصريف الأعمال ​جبران باسيل​ على تحضير الأرضيّة المناسبة له ليكون مشروع حلّ، لا العكس.

ولعلّ ما يعزّز "الامتعاض" من أداء الحريري من جانب "شركائه" يتمثّل في إقفاله الطريق على كلّ الطروحات التي تُقدَّم له، والمتمثلة في الأفكار المتعدّدة التي يسوّقها الوزير باسيل، وكأنه يريد أن "يفرض" على رئيس الجمهورية "أمراً واقعاً" هو أن يكون الحلّ على حسابه ومن حصّته، ونقطة على السطر. وقد برز ذلك بوضوح من خلال صيغة حكومة الـ32 وزيراً، التي وجدت قابلية لدى معظم الأطراف، فإذا بالحريري يرفضها من دون أسباب مقنعة، سوى الخشية من "تكريس عرف جديد"، عبر "استحداث" وزير علوي، اعتبره بمثابة "وزير شيعي سابع"، ما يضرب التوازن مع السنّة.

لا للهرب إلى الأمام...

يقول العارفون إنّ أحداً من المعنيّين ليس في وارد البحث عن "بدائل" للحريري في هذه المرحلة، ليس تقليلاً من شأن البدائل الموجودة والمتوافرة أصلاً، ولكن لأنّ المرحلة تتطلب وجود الرجل على رأس حكومة وحدةٍ وطنية ينشدها الجميع.

ويقول العارفون أيضاً إنّ رئيس الجمهورية لا يريد أيّ تهديدٍ لعلاقته مع الحريري، مع ما يعنيه من "فرط" للتسوية الرئاسية التي يتمسّك بها اليوم بشدّة، ومثله أيضاً يتصرّف "​حزب الله​" ورئيس مجلس النواب ​نبيه بري​، اللذين لا يريدان "قلب الموازين".

ولكن بين هذا وذاك، ثمّة من يقول إنّ الحكومة باتت تتطلب مقاربة جدية، بعيداً عن تجاهل العقد، وفرض الأمر الواقع، وبعيداً عن الهرب إلى الأمام من خلال السفرات المتلاحقة التي لا تسمن ولا تغني من جوع، بغياب حكومةٍ أصيلةٍ تستطيع الإنتاج...