في الأصول القانونية المطبّقة في كلّ مستويات القانون وفروعه ​الدستور​ية والإدارية والمدنية إلخ… هناك قاعدة حاكمة تقول «من يمنح يستردّ، إلا إذا كان تنازل عن حق الاسترداد أصلاً ومن يعيّن أو يكلف يعزل إلا إذا كان تنازل عن حق العزل ومن يرتبط يحدّد مهلة ارتباطه وإلا يكون له في أيّ وقت يشاء التنصّل من الارتباط بعد ان يحفظ مصالح الطرف الآخر ويتجنّب ممارسة سوء استعمال الحق، فالأمر مستقيم هنا من حيث مهلة الارتباط على وجوب تعيين مدة العلاقة فإن لم تكن عيّنت فيكون لأيّ من أطرافها أن يضع حداً لها عندما يرى مصلحة له في لذلك ولا قيد عليه إلا مسألة مراعاة مصالح الأطراف في التوقيت.

أحببت أن أبدأ بهذا والتذكير بالقانون، لأدخل في مسألة تعثر تشكيل ​الحكومة​ اللبنانية وعجز ​سعد الحريري​ المكلف بالمهمة عن إنجازها، وتظاهره بالطمأنينة إلى «أنّ تكليفه أبدي ونهائي» لا يستطيع أحد وضع حدّ له متحصّنا بخلوّ الدستور من نص يحدّد له سقفاً يلزمه بالاعتذار عن التكليف إذا خرقه ولم يؤلف، وما استتبع ذلك من جدل حول حق ​رئيس الجمهورية​ بالمبادرة الى عمل ما لحمل الرئيس المكلف على إيجاد حلّ يحفظ المصلحة العليا للبلاد التي أقسم الرئيس على حفظ دستورها واحترامه.

لقد ألمح رئيس الجمهورية الى أنه يفكر بإرسال رسالة الى ​مجلس النواب​ يبلغه فيها بما آلت اليه أمور ​تشكيل الحكومة​ بعد سبعة شهور على تكليف سعد الحريري بالمهمة، وانّ الرئيس ان فعل، يكون مارس حقاً دستورياً مكرّساً بالمادة 53 من الدستور التي تنص في معرض تعدادها لصلاحيات رئيس الجمهورية على انه «يوجّه عند الضرورة رسائل الى مجلس النواب» وقد أدخل هذا النص في ​الطائف​ ليعوّض للرئيس عن الكثير من الصلاحيات التي انتزعت منه وليتمكّن الرئيس من إشراك مجلس النواب في تحمّل المسؤولية عن أعمال يرى انها تمسّ بالمصالح الوطنية العليا.

لقد كان رئيس الجمهورية قبل الطائف هو السلطة التنفيذية كلها يمارسها بمعاونة وزراء يعيّنهم ويسمّي من بينهم رئيساً ويعزلهم جميعاً أو بعضهم متى شاء دون أن يكون هناك رقيب على فعله، الأمر الذي تغيّر برمّته بعد الطائف، حيث انّ تشكيل الحكومة وعزلها لم يعد في الحقيقة والعمق بيد الرئيس بل أصبح في يد مجلس النواب ويمارسه رئيس الجمهورية شكلياً وتنفيذياً. حيث يشكل الحكومة من تختاره الأكثرية النيابية وليس من يريده رئيس الجمهورية ولا دور للرئيس هنا إلا في الوقوف على رأي الأكثرية وإعلان اسم من اختارت وتكليفه، والرئيس يصدر المراسيم التي تشكل الحكومة التي يقترحها المكلف بالتشكيل، والحكومة لا تحكم إلا بعد نيل ثقة المجلس، وكذلك في حال نزع الثقة فإنها تسقط وتتحوّل الى ​تصريف الأعمال​ بالمعنى الضيّق.

ولأن للمجلس النيابي هذا الدور المحوري الجذري في مسيرة الحكومة وحياتها، ولأنّ رئيس الجمهورية جُرّد من صلاحية التعيين والعزل بالطريقة التي كانت، ولأنّ رئيس الجمهورية مؤتمن على الدستور، لكلّ ذلك وجب أن يكون تعاون بين الرئيس و​المجلس النيابي​ لضبط المسار، هذا التعاون وضعت هيكلته وأسسه بالنص على حق الرئيس في توجيه رسائل الى مجلس النواب وحثه على اتخاذ الموقف المناسب من الحكومة وأيّ سلوك او مسار آخر يتصل بها وبمصالح البلاد.

وإذا فعل الرئيس وأرسل الرسالة يكون على المجلس الاستماع إليها، ومناقشة ما ورد فيها، ويكون مسؤولاً عن اتخاذ الموقف الذي يراه على ضوء ما أظهره الرئيس في رسالته، وإذا كان الموضوع المطروح متصلاً بمماطلة أو تعثر أو تلكّؤ في تشكيل الحكومة فإنّ للمجلس والذي هو سيّد نفسه ان يتخذ موقفاً من ثلاثة حيال الأمر: له أولاً أن يؤكد على دعمه للرئيس المكلف مع قبوله بالتأخير، وله ثانياً أن يستمهل البتّ بالموقف استمهالاً يكون بمثابة المهلة النهائية المعطاة للرئيس المكلف حتى ينجز مهمته، وله أخيراً أن يوصي بإجراء استشارات جديدة تنقض الاستشارات السابقة ويتمّ على ضوئها أحد أمرين إما إعادة تكليف الشخص نفسه أو اختيار سواه وتكليفه بتشكيل الحكومة وفقاً لما ترى الأكثرية النيابية.

على ضوء ما تقدّم لا نرى مبرّراً لحالة الذعر والصخب والتهويل التي ردّ بها البعض ومنهم رؤساء حكومة سابقون على مجرد فكرة نية الرئيس بتوجيه رسالة الى مجلس النواب تعرض موضوع التأخير في تشكيل الحكومة مع ما رافقها من التباكي على صلاحيات رئيس الحكومة المكلف ودستور الطائف.

وهنا نسأل هؤلاء عن مدى قبولهم لبقاء الدولة بدون حكومة طيلة أربع سنوات هي عمر المجلس إذا بقي الحال على هذا المنوال القائم منذ سبعة أشهر؟ ثم لماذا الخوف من العودة الى مجلس النواب وهو المخوّل دستورياً بالتكليف وبمنح الثقة وبحجبها؟ أما عن التذرّع بعدم النص على مهلة دستورية للتكليف فإننا نرى انّ للأمر معنى غير ما يتداول حوله، فما المدلول القانوني لعدم النص؟

إذ أنه على ضوء الفقه الدستوري والمنطق القانوني والأصول والقواعد في تفسير الدستور والقانون نقول إنه في حال النص على مهلة قصوى لتشكيل الحكومة من قبل الرئيس المكلف بالمهمة لا يكون لرئيس الجمهورية ومن بعده لمجلس النواب الحق بإثارة مسألة التكليف قبل انصرام المهلة المحدّدة التي تكون باتت حقاً مكتسباً للرئيس المكلف يناور خلالها من أجل تشكيل حكومة يختارها، اما في غياب تحديد المهلة دستورياً فيكون لرئيس الجمهورية ومن ثم لمجلس النواب ان يراجع الموقف ويعيد النظر بالتكليف منذ اليوم التالي لحصوله كما لو تبيّن مثلاً بعد ساعات على صدور التكليف انّ الشخص المكلف فاقد للأهلية الدستورية لتشكيل الحكومة وامتنع عن الاعتذار بمبادرة منه، فهل يمكن ان توضع الدولة تحت رحمته بدون حكومة بحجة انّ الدستور لم يحدّد له مهلة للتشكيل؟

يجب ان يتذكر الجميع انّ روح النظام الديمقراطي البرلماني وجوهره يتمثل في القول بفصل السلطات وتعاونها وانّ السلطة تحدّها السلطة، وانّ أهمّ إنجاز كانت ترمي اليه الإصلاحات الدستورية في الطائف هو وضع حدّ لحكم الشخص الواحد وتفرّده، ولم يكن في خلد أحد ولن يكون مقبولاً إرساء منطق «الحاكم الفرد المطلق» كما يمارس رئيس الحكومة الآن منذ تكليفه وحتى قبل صدور مرسوم حكومته، وبعد نيله الثقة، وإذا كان إصرار على حكم الشخص الواحد وبشكل مطلق فإنّ هذا وفي ظلّ المتغيّرات والحاجات يشكل دعوة للشعب للعمل في الشارع للتغيير عملاً بالقاعدة ان النظام الذي لا يصلح نفسه يفتح الباب أمام التغيير من خارجه فهل هذا ما يريدون؟ خاصة انّ ما يطالبون به ليس من أصل النظام بل تفسير مبتدع لنصوص واضحة وإضفاء معاني لا تستقيم مع المنطق القانوني، وعليه نقول:

1 ـ إنّ من حق رئيس الجمهورية وبدون نقاش أن يوجه رسالة الى مجلس النواب يطلعه فيها على واقع حال تشكيل الحكومة المتعثر ويطلب منه موقفاً يتحمّل فيه مسؤولياته، وانّ الاعتراض على ممارسة هذا الحق هو اعتراض على تطبيق الدستور وإمعان في إرساء نظام سياسي مناقض لروح الدستور وجوهره أيّ نظام «الحكم المطلق لرئيس الحكومة«.

2 ـ انّ من حق مجلس النواب ان يراجع مسألة التكليف ويسحب التفويض المعطى لرئيس الجمهورية بتكليف شخص ما بتشكيل الحكومة في أيّ وقت يرى طالما انّ الدستور لم يحدّد مهلة لرئيس الحكومة المكلف وطالما انّ كلّ الأمر بيد المجلس، فالحكومة كلها رهن قراره منذ الشروع في تشكيلها وحتى ما بعد نيلها الثقة، وانّ الاعتراض على دور المجلس في هذا المجال إنما هو هرطقة وخرق للدستور وانتهاك لجوهر النظام الديمقراطي البرلماني الذي يعمل لبنان به.

3 ـ انّ من حق رئيس الحكومة المكلف ان يقدّم الى رئيس الجمهورية التشكيلة التي يراها مناسبة ومن حق رئيس الجمهورية ان يوقع أو لا يوقع على هذه التشكيلة، فإذا حصل التوقيع تنتقل المواجهة الى مجلس النواب في معرض طلب الثقة، وإذا لم يوقع الرئيس تشكيلة الحكومة وأصرّ عليها رئيس الحكومة المكلف فعلى الأخير ان يعتذر ثم تكون عودة الى مجلس النواب عبر استشارات ملزمة جديدة فإذا أصرّت أكثرية النواب على تكليف الشخص ذاته مجدّداً يكون على رئيس الجمهورية ان يوقع التشكيلة التي يقدمّها الرئيس المؤكد على تكليفه من قبل مجلس النواب.