بعد المبادرة التي أطلقها وزير الخارجية في ​حكومة​ تصريف الأعمال ​جبران باسيل​ قبل فترة لحلّ العقدة الحكوميّة المتعلقة بتوزير "سُنّة ​8 آذار​"، من دون أن تفضي إلى حلّ، رغم احتوائها سلسلة "أفكار" لمخارج متاحة، أطلق رئيس الجمهورية ​ميشال عون​ مبادرة جديدة خلال اليومين الماضيين، تحت العنوان نفسه، وهو التسريع في ولادة الحكومة.

وفي وقتٍ أظهر رئيس الحكومة المكلف ​سعد الحريري​ "رضاه" عن مبادرة عون، سواء بعد اللقاء الذي جمعهما في قصر بعبدا، أو من خلال المواقف التي صدرت عن بعض القياديّين في تيّاره، تُطرَح علامات استفهام حول موقعه في المعادلة، بعدما ظهر بصورة "المعتكف" منذ بروز العقدة الأخيرة، ما أوحى وكأنّه بات عملياً "الحلقة الأضعف"...

"المستقبل" راضٍ

مع إعلان رئيس الجمهورية ميشال عون "مبادرة" جديدة للحيلولة دون "الكارثة" التي يمكن أن تنجم عن المزيد من المماطلة والتسويف في الملفّ الحكوميّ، وبالتالي التأخير في ولادة الحكومة، بدا كأنّ "​تيار المستقبل​" تنفّس الصعداء، وهو ما ترجم في البيان الأخير لكتلته التي اعتبرت أن خطوة الرئيس عون "مهمة وتصب في الاتجاه الصحيح وتعيد الحوار في الشأن الحكومي الى السكة الصحيحة".

ولعلّ مردّ الارتياح "المستقبليّ" من المبادرة الرئاسيّة يعود في المرتبة الأولى إلى أنّها إن دلّت على شيء، فعلى أنّ رئيس الجمهورية صرف النظر مبدئياً عن الرسالة الرئاسيّة التي كان ينوي توجيهها إلى مجلس النواب، وهي الرسالة التي تعرّضت لضجّة استباقيّة داخل "تيار المستقبل"، الذي وصل به الأمر إلى حدّ "التلويح" بمقاطعة أيّ جلسةٍ يمكن أن يدعو إليها رئيس مجلس النواب ​نبيه بري​ لنقاش رسالة عون، رغم إقراره بـ"الحق الدستوري" لعون، والذي لا ينازعه عليه أحد، في توجيه مثل هذه الرسالة.

وإذا كان "المستقبليّون" يعتقدون أنّ قفز عون فوق "الرسالة الرئاسية" أتى بدفعٍ مباشرٍ من بري، ما يعكس تمسّك الأخير، ومن خلفه "​حزب الله​"، بالحريري رئيساً للحكومة بعيداً عن فتاوى واجتهادات "سحب التكليف"، وإن صدرت عن بعض مكوّنات "8 آذار"،فإنّهم يرون في الوقت نفسه أنّ هذه الخطوة أتت لتنقذ البلاد من "المجهول" الذي كادت تذهب إليه، خصوصاً على صعيد ما كان يمكن للرسالة أن تؤدي إليه من "فرط" للتسوية الرئاسية التي أعيد إحياؤها في الساعات الماضية بعد مرورها بـ"شبه انهيار"، فضلاً عن قدرتها على "إحداث فتنة مسيحية-سنية وسنية-شيعية تؤديان الى خراب البلد" وفق تعبير بري نفسه.

ولكنّ الارتياح "المستقبليّ" من إعادة الأمور إلى "السكّة الصحيحة" على حد تعبير الكتلة "الزرقاء" لم يترجم ترحيباً مطلقاً بمضمون التسريبات حول فحوى "المبادرة الرئاسية"، بانتظار تكشّف مضمونها رسمياً، خصوصاً أن المطّلعين على موقف الحريري حرصوا في الساعات الماضية على التذكير بموقفه الثابت والنهائي، لجهة رفضه توزير أحد نواب "اللقاء التشاوري" ولو من حصّة رئيس الجمهورية، فضلاً عن رفضه مجرد الاجتماع بهم، وهو ما بات يعتبره البعض "عقدة بحدّ ذاتها".

أين الحريري؟

تزامناً مع "المبادرة الرئاسيّة" الجديدة في الملفّ الحكوميّ، غادر الحريري إلى العاصمة البريطانية لندن في زيارة تستمر أياماً عدة، شارك خلالها في منتدى الأعمال والاستثمار اللبناني-البريطاني، حيث ألقى كلمة في المناسبة ورعى توقيع اتفاقية بين شركة "رولز رويس" الإنكليزية وشركة "طيران الشرق الأوسط".

وعلى الرغم من الطابع الرسمي "الظاهر" للزيارة، إلا أنّها تأتي مشابهة بالنسبة لكثيرين لسلسلة "السفرات" التي قام بها في الآونة الأخيرة، في أوج الأزمة الحكوميّة، لعلّ أبرزها تلك التي قام بها بعد إعلانه "إنجاز حكومته وانتظاره أسماء وزراء حزب الله"، واعتُبِرت رحلته الخارجية يومها بمثابة "حرد وتسجيل موقف" وصولاً إلى حدّ "الاعتكاف المُعلَن"، بعدما ترك زمام المفاوضات حول عقدةٍ هو معنيٌ بها إلى الآخرين.

ومع أنّ الوزير جبران باسيل قاد يومها "وساطة" لمحاولة تقريب وجهات النظر، فإنّه اصطدم بإصرار الحريري على عدم وجود عقدة من الأساس، ورفضه التجاوب مع طروحاته، ولو من خلال مجرد عقد اجتماع مع نواب "اللقاء التشاوري" كان يمكن أن يفتح الطريق أمام الحلّ بدل تعقيده أكثر، وهو الأمر الذي يخشى البعض أن يتكرّر مجدّداً في التعاطي مع المبادرة الرئاسيّة، خصوصاً أنّ التنازلات والتضحيات ستكون مطلوبة من جديد، وإذا كان عون يمهّد ليدفع أولها من كيسه، في سبيل تجنّب "الكارثة" التي حذر منها، فإنّ الطرفين المعنيَّيْن بالأزمة، والحريري أحدهما ولو أصرّ على عدم الاعتراف بذلك، مطالَبان بمواكبته بتنازلاتٍ مشابهة، ولو كان وقعها أقلّ.

وبانتظار نضوج المبادرة الرئاسية وما يمكن أن تفرزه على صعيد الحلّ الحكوميّ، ثمّة من يقول إنّ المبادرة في المبدأ ليست في مصلحة الحريري، أياً كانت نتيجتها، لأنّها تكرّس من جديد ضعف رئيس الحكومة المكلف وعجزه، خصوصاً أنّ الرئيس يقوم اليوم بالمهمّة التي يفترض أن يقوم بها الحريري نفسه، لناحية إدارة المفاوضات المتعلقة بالحكومة، علماً أنّ ثمّة من يسجّل على الحريري أنّه، ومنذ تكليفه تشكيل الحكومة، يتصرّف دائماً وكأنّه ينتظر الحلول من الآخرين، بدل أن يكون هو المبادِر، باعتبار أنّ الحكومة حكومته، وهو المعنيّ بتأليفها وفكّ الألغام المحيطة بها. وخير دليلٍ على ذلك أنّ حلّ كلّ العقد التي اصطدمت بها الحكومة، ولا سيما المسيحيّة والسنيّة، أتت ثمرة عمل الآخرين، فيما كان الحريري ينتظر، من دون أن يبادر.

الحاكم بأمره؟!

لا ينكر أحد أنّ رئيس الحكومة، ومنذ توقيع اتفاق الطائف، الذي انتزع الكثير من صلاحيّات رئيس الجمهورية ووضعها في يده، بات هو الحاكم بأمره في البلاد، مستفيداً من الكثير من الامتيازات التي أعطيت له حصراً.

ولا يناقش أحد في كون سعد الحريري اليوم، "الشخص المناسب في المكان المناسب"، باعتبار "زعامته" الأقوى في الشارع السنّي، ما يجعل البحث عن "بدائل" لقيادة حكومة وحدةٍ وطنيّة، غير مبرَّر لا سياسياً ولا شعبياً.

ولكن، أبعد من هذه الثوابت التي لا جدال حولها، تُظهِر الوقائع أنّ الحريري بات عملياً الأضعف في المعادلة، واقعٌ وإن كانت تركيبة البلد تدفع إليه بشكلٍ أو بآخر، إلا أنّ الحريري يتحمّل جزءاً كبيراً من مسؤوليته، من خلال أدائه الذي حوّله إلى متلقٍ بدل أن يكون المبادر الأول، وربما الأخير...