ليس خافياً على أحد أنّ الوضع في البلاد ليس في أحسن أحواله هذه الأيام، على الرغم من كلّ الجهود التي يبذلها البعض لتفادي "الكارثة" التي حذّر منها رئيس الجمهورية ​ميشال عون​ عندما أطلق مبادرته الحكوميّة الأخيرة قبل أيام.

قد يكون الوضع الحكوميّ المستعصي أحد أبرز تجليات هذه "الكارثة"، بعد سبعة أشهر على تكليف رئيس حكومة استبشر بها الكثيرون خيراً، من دون أن ينجح القيّمون عليها في منحها الحياة، هذا قبل الحديث عن التوقّعات الهزيلة بإنتاجيّتها، إن وُلِدت.

ولا تقتصر مؤشرات "الكارثة" على الحكومة، التي يعتبرها كثيرون "خشبة الخلاص" المنتظرة، بالنظر إلى الواقع الاقتصادي والاجتماعي الذي يئنّ بسببه جميع اللبنانيين، من دون استثناء، ولا تمييز بين انتماء سياسي أو طائفي هنا أو هنالك.

وفي حين يرفع السياسيون، الذين يحمّلهم البعض أسباب الأزمة، الصوت بشكلٍ شبه يوميّ، يغيب عن السمع ما يسمّى بـ "المجتمع المدني"، فلا تحرّكات "ضاغطة" تُرصَد له، بعيداً عن "تمثيليات رفع العتب"، فما سبب هذا "التقاعس"؟ ومن يغيّب المجتمع المدني عن المشهد اليوم، في وقتٍ يفترض أن يتصدّره؟

غياب غير مبرَّر؟!

لافتة تصريحات المسؤولين السياسيين التي صدرت في الأيام الأخيرة، بدءاً من رئيس الجمهورية ميشال عون، الذي حذر من "الكارثة" التي يمكن أن تحلّ بالبلاد والعباد إذا لم تنجح مبادرته في تأليف الحكومة، علماً أنّ كثيرين يعتقدون أنّ عون يدرك أنّ "العهد" من أكثر المتضرّرين من الواقع المأزوم، خصوصاً أنّه يأتي على حسابه ومن عمره، فيما يريد ان يكون عهداً للإنجازات، ينهي الصورة التقليدية السابقة للدولة.

ولم يكن عون وحيداً في إبداء "القلق"، فقد واكبه في ذلك كل من رئيس مجلس النواب ​نبيه بري​ الذي بات كمن ينتقي مفردات "القلق" ليردّدها بصورة شبه يومية في تصريحاتٍ وبياناتٍ متسلسلة، يحذر فيها من "الانهيار" الذي تذهب إليه البلاد، ومثله يفعل رئيس الحكومة المكلف ​سعد الحريري​، محمّلاً خصومه الذين يتهمهم بالضغط عليه لعرقلة ولادة الحكومة المسؤولية الكاملة عن ذلك.

قد يقول قائل إنّ عون وبري والحريري، فرادى أو مجتمعين، هم من يتحمّلون مسؤولية إيصال الأمور إلى هذا الدرك، وأنّ مقولة "ضربني وبكى... سبقني واشتكى" قد تنطبق عليهم، باعتبار أنّ المطلوب منهم هو إيجاد المَخارِج للإنقاذ لا البكاء على الأطلال. قد يكون ذلك صحيحاً، باعتبار أنّ هؤلاء يمثّلون السلطة حالياً، ولو كان كلٌّ منهم يميّز نفسه عن الآخرين، إلا أنّ الأصح من ذلك يبقى أنّ غياب المعارضة عن الصورة والمعادلة، وتحديداً المجتمع المدني، يبقى الأكثر استهجاناً.

فأين هو المجتمع المدني من الواقع الذي وصلت إليه البلاد اليوم؟ هل اكتفى بإيصال ممثلة وحيدة له إلى البرلمان، لا يتردّد الكثير من مكوّناته في "التبرؤ" منها أساساً، في إطار "الصراع الداخلي" بين مجموعاته؟ وهل تعبّر عنه التحركات "الخجولة"، وربما "اليتيمة"، التي تقوم بها فئات محدّدة داخله بين الفينة والأخرى، والتي تمرّ مرور الكرام، مع بعض "التكبيل" الإضافي للمواطنين؟

ألم يحن الوقت بعد ليدرك هذا المجتمع المدني أنّ تحرّكاً جدياً ومسؤولاً من قبله اليوم، بعيداً عن تحركات "رفع العتب" غير المثمرة ولا المنتجة، أكثر من واجب، أقلّه للضغط على السياسيين لتأليف الحكومة؟ هل "استسلم" للواقع القائم، وأخذ "إجازة طويلة"، أم أنّ تحرّكاته باتت مربوطة بالاستحقاقات الانتخابية، البعيدة نسبياً اليوم؟.

خيباتٌ بالجملة

إذا كانت تظاهرة "​الحزب الشيوعي اللبناني​" نجحت الأحد الماضي، في إعادة تسليط الضوء على الأزمات التي يعاني منها اللبنانيون، وعلى ضرورة التحرّك لرفع الصوت، فإنّها نجحت أكثر، خصوصاً من خلال مشاركة الكثيرين ممّن لا ينتمون إلى "الشيوعي" أصلاً، في الإضاءة على غياب المجتمع المدني غير المبرَّر عن المشهد العام.

وفي حين يعتبر كثيرون أنّ المجتمع المدني لا يزال يلملم ذيول "الخيبة" التي مني بها في الانتخابات النيابية الأخيرة، بعدما عجز عن خوض مواجهة "الند للند" مع أحزاب السلطة، فإنّ مثل هذا المنطق يتعارض في الأساس، شكلاً ومضموناً، مع مفهوم وفلسفة المجتمع المدني، الذي لا يفترض أن يكون مرتبطاً بالسلطة والمناصب، بقدر ما يجسّد قضايا نضاليّة مشتركة، بل إنّه يمكن أن يشمل من ضمن من يشملهم، من حيث المبدأ، قوى السلطة نفسها، بصورةٍ أو بأخرى.

ولا شكّ أنّ الانتخابات الأخيرة لم تشكّل "الحاجز" الوحيد أمام هذا المجتمع المدني، الذي لا يزال يعيش تردّدات حراكه الشهير في العام 2005، والذي سقط بضرباتٍ بالجملة، معظمها من هيكليته الداخلية، وبسبب الصراعات التي نشبت بين مختلف مكوّناته، واضعة حداً لـ "الحلم" الذي انتاب الكثير من اللبنانيين بـ "التغيير"، فإذا بـ "النموذج البديل" غير قادر على الصمود أمام أقلّ "العواصف" وأدناها.

ولعلّ المفارقة أنّ أحداً لا يشكّ بأنّ واقع البلاد اليوم ليس أفضل منه في العام 2015، بل إنّ الأزمات التي خلقت حراك 2015 لا تزال هي هي اليوم، بل إنّها تفاقمت، من دون أن ننسى الملفّ الحكوميّ الذي كان يفترض بأن يدفع الشباب اللبناني إلى التحرك عفوياً، من دون انتظار أيّ توجيهات أو تعليمات.

رغم كلّ ذلك، لم تعلن المجموعات المدنية "الاستنفار"، ولم تُرصَد في الشارع وغيره أيّ تحركات جدية لرفع الصوت، وكأنّ المجتمع المدني، بوجوهه القديمة والجديدة، أعلن "الاستسلام"، تاركاً الشعب للمصير الذي اختاره لنفسه، عندما انتخب ممثليه من أحزاب السلطة بملء إرادته.

يغيّب نفسه بنفسه...

كعادتهم، لم يتأخر اللبنانيون في "التعليق" على تحركات "السترات الصفراء" في فرنسا. بعضهم عبّر عن "إعجابه" بالشعب الفرنسي الذي تحرّك بسبب ضرائب لا أكثر، وبعضهم وجد في مواقف الرئيس الفرنسي ​إيمانويل ماكرون​ والحكومة ما يستدعي "الثناء" لكونهم لم يتجاهلوا صوت الشارع، ولو بطريقة تصاعدية.

بعضهم أيضاً من ذهب إلى "التنمير"، عبر انتقاد بعض حركات "الشغب" أو ما يسمّى بـ "الطابور الخامس"، ومن ذهب إلى حدّ استدعاء "نظرية المؤامرة" الشهيرة، بما ذكّر أصلاً بالفرضيّات التي أطلقت حول الحراك المدني اللبناني، وكانت من أسباب إطفائه بشكلٍ أو بآخر.

لكن بين هذا وذاك، يبقى السؤال، أين اللبنانيون من كلّ ذلك، وهم الذين يئنّون تحت وطأة الضرائب بالجملة، وكثيرون منهم يعيشون تحت خط الفقر أصلاً؟ وإذا كان المجتمع المدني، بصيغته التقليدية، اختار الاستسلام والانكفاء، وبالتالي غيّب نفسه بنفسه، ألم يحن الوقت لـ "انتفاضة ما"، قد يتصدّرها المجتمع المدني الحقيقي، بكامل تركيبته، التي تشمل كلّ أبناء الوطن، من دون تمييز بين الحزبيّ والملتزم وغيره، لأنّ الخطر يطال الجميع من دون استثناء؟!.