تتضارب التحليلات بشأن إرتدادات ما يحصل في المنطقة من تطوّرات مُتسارعة، على ​إسرائيل​، حيث يرى بعض الخُبراء أنّ هذه الأخيرة تُركت وحيدة، وهي ستكون بالتالي في وضع صعب في أيّ مُواجهة عسكريّة مُقبلة، ليس من الناحية الأمنيّة والعسكريّة فحسب، بل من ناحية الدعم السياسي أيضًا، بينما يرى بعض الخبراء الآخرين أنّ مضمون الخطط الإستراتيجيّة يختلف عن شكلها السطحي الظاهري، مُعتبرة أنّ الخطوة الأميركيّة الأخيرة تدخل ضُمن تسوية شاملة ستطال الملفّ السُوري بأكمله في العام 2019، ومن بين بُنوده سحب الوُجود العسكري ال​إيران​ي من ​سوريا​، بشكليه المُباشر وغير المُباشر؟.

النظريّة الأولى، تتحدّث عن إنكفاء مُتصاعد للدور الأميركي والغربي في سوريا، والذي تُرجم أخيرًا بقرار أميركي من طرف واحد يقضي بسحب القوّات الأميركيّة من سوريا خلال مُدّة زمنيّة ستستغرق ما لا يزيد عن شهرين أو ثلاثة أشهر في أبعد تقدير. ومن شأن هذه الخُطوة إنهاء أي وُجود أمني للقوّات الغربيّة الحليفة التي كانت تدعم "قوات سوريا الديمقراطيّة" التي تتشكّل من تنظيمات كرديّة وعربيّة مُتحالفة، خاصة في شمال شرق سوريا، وهو ما يصبّ في صالح ​تركيا​ والنظام السُوري على السواء. وفي مُقابل الإنكفاء الأميركي–الغربي الكامل عن سوريا، فرضت ​روسيا​ وجودها العسكري والسياسي هناك، من خلال تثبيت قواعدها العسكريّة وتسليم النظام السُوري منظومة صواريخ "أس 300" للدفاع الجوّي ضُدّ أي طيران مُعادٍ، الأمر الذي أضعف كثيرًا قُدرة الجيش الإسرائيلي على شنّ الغارات ضُدّ أهداف في الأراضي السوريّة–ولوّ من دون أن يُلغيها كليًا، وكذلك من خلال لعب روسيا الدور المركزي في جولات التفاوض التي تبحث التسوية النهائية في سوريا، في تفوّق واضح على الدبلوماسيّة الأميركيّة والأوروبيّة في هذا المجال.

وأصحاب هذه النظريّة يتحدّثون عن أنّ إسرائيل باتت معزولة عسكريًا وسياسيًا في المنطقة، وأنّ كل ما تُثيره من حملات إعلاميّة، ضُدّ "محور المُقاومة والمُمانعة" في سوريا ولبنان والمنطقة ككل، تارة بحجّة إقامة قواعد إنتاج وإطلاق صواريخ وحفر أنفاق حُدوديّة في لبنان، وطورًا بحجّة إقامة قواعد إيرانيّة بمحاذاة الجولان السُوري المُحتل والعمل على إنشاء مجموعة مُقاومة في سوريا على غرار مجموعات "​حزب الله​" في لبنان، لا يعدو كونه مُجرّد بلبلة إعلاميّة لا تُبدّل في الوقائع القائمة، والتي تتعزّز يومًا بعد يوم لصالح إيران والقوى الحليفة لها في المنطقة.

في المُقابل، تُوجد نظريّة ثانية مُقابلة تختلف كليًا عن الأولى، وهي تعتبر أنّ الإنسحاب العسكري الأميركي والغربي من سوريا يدخل في سياق إتفاقات بعيدة عن الأضواء بين واشنطن وموسكو، تقضي بسحب كل القوى المُسلّحة من سوريا بشكل تدريجي، حيث يُنتظر أن تسحب واشنطن من خُصومها عُذر بقاء القوّات الإيرانيّة في سوريا، إن مباشرة عبر الخُبراء والمُدرّبين العسكريّين، أو غير مُباشرة عبر الفصائل المُقاتلة التي تمّ توجيهها إلى سوريا من كل من لبنان والعراق وأفغانستان وغيرها من الدول. وبحسب هذه النظريّة فإنّه من المُرتقب أن يلي الإنسحاب العسكري الأميركي والغربي من سوريا، إنسحاب للقوات التي تدور في الفلك الإيراني منها أيضًا، بالتزامن مع التطوّر المتوقّع للحلّ السياسي الخاص بالحرب السُوريّة. وأصحاب هذه النظريّة يعتبرون أنّه على الرغم من تسليم موسكو مفاتيح الحلّ النهائي السياسي في سوريا، فإنّ أميركا والدول الأوروبيّة لا تزال تملك العديد من أوراق الضغط، حيث أنّها تُعرقل أيّ تمويل للشروع في إعادة إعمار سوريا، قبل التوصّل إلى تسوية سياسيّة مُرضية، ما يعني أنّ عودة النازحين واللاجئين الواسعة والفعليّة، وإنطلاق ورش إعادة الإعمار الشاملة أيضًا للبنى التحتيّة وللبلدات والمُدن السُورية، ورفع العزل الإقليمي والدَوليعن النظام السُوري، لن يتمّ قبل التوافق على التسوية النهائيّة.

وبالنسبة إلى مسألة الأنفاق الحدوديّة في الجنوب اللبناني، فإنّ أصحاب النظريّة الثانية يعتبرون أنّ الحملات الإعلاميّة الإسرائيلية تصبّ في خانة سياسة دعائيّة تعتمدها إسرائيل منذ نشأتها، لجهة لعب دور الضحيّة، لتقليب الرأي العام الدَولي لصالحها، وللضغط في إتجاه صُدور قرارات وإجراءات أمميّة توفّر لها المزيد من الحماية، مُعتبرة أنّ ما صدر عن مجلس الأمن الدَولي من مواقف خلال جلسته الأخيرة يصبّ في هذا الإتجاه. ورأى هؤلاء الخُبراء أنّ إسرائيل تُلاقي بحملاتها المُفتعلة، الإدارة الأميركيّة في سعيها لتشديد العُقوبات على إيران، وعلى "حزب الله"، وهي تعمل ليل نهار لإحراج لبنان الرسمي والجيش اللبناني، ولإفتعال المزيد من الإنقسامات والمشاكل على الساحة اللبنانيّة، وبين لبنان ودول العالم، وتُمهّد كذلك الأمر لصُدور عُقوبات أميركيّة مُتشدّدة جديدة ضُد "حزب الله".

في الخُلاصة، لا تغيير كبير في السياسة الإستراتيجيّة الأميركيّة العريضة بالنسبة إلى منطقة الشرق الأوسط، لكنّ عمليّات شدّ الحبال السياسي–إذا جاز التعبير، هي عرضة دائمًا للتبدّل لصالح هذا الطرف أو ذاك، تبعًا للظروف القائمة والتي غالبًا ما تتغيّر بسرعة. واليوم، وعلى الرغم من أنّ الصورة الشكليّة العامة تُظهر إنكفاء أميركيًا كليًا عن منطقة الشرق الأوسط لصالح تعاظم الدور الروسي، وتُظهر عزلاً كاملاً لإسرائيل لصالح تزايد الخناق السياسي والعسكري عليها، فإنّ المضمون الفعلي للوقائع يُبيّن صُورة مُغايرة، تُثبت أنّ الصراع بين إسرائيل ومن خلفها أميركا من جهة، وإيران ومن خلفها كل القوى المُدرجة تحت خانة "محور المُمانعة"، لا يزال على أشدّه، وهو مفتوح على تغيّرات سريعة من دون نتيجة حاسمة لأيّ طرف–أقلّه حتى اليوم.