شكل قرار الرئيس الأميركي ​دونالد ترامب​ بالإنسحاب من سوريا صدمة لمختلف الأوساط المعنيّة بالأزمة السوريّة، خصوصاً أن الأجواء التي ينقلها مختلف المسؤولين الأميركيين كانت تعاكس هذا التوجه، بالرغم من أن ترامب سبق له أن أعلن، في أكثر من مناسبة، عن رغبته في الذهاب إلى هذا الخيار.

قبل نحو سنة ونصف السنة، تحدث السفير الأميركي السابق في سوريا ​روبرت فورد​ عن هذا السيناريو، مشيراً إلى أن الأكراد سيدفعون غالياً ثمن ثقتهم بواشنطن، وإلى أن الجيش الأميركي يستخدمهم فقط لقتال تنظيم "داعش" الإرهابي، لكنه لن يستعمل القوة للدفاع عنهم ضد سوريا أو ​إيران​ أو ​تركيا​، لكن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم يتعلق بتوقيت الإعلان عن القرار الجديد، خصوصاً أنه يأتي بعد حديث الرئيس التركي ​رجب طيب أردوغان​ عن نية بلاده شن حملة عسكرية ضد "​قوات سوريا الديمقراطية​" في شرق الفرات.

في 18 آب الماضي، أكدت الإدارة الأميركية إستمرار وجود قواتها في سوريا، وأن ليس هناك من موعد زمني لهذا الوجود، لكن السؤال الذي لم تتم الإجابة عنه هو ما الهدف من هذا الوجود، الذي ربط، بحسب التصريحات العلنية بالقضاء على "داعش" بشكل نهائي؟! لكن ترامب، الذي ينبغي التعامل معه دائماً على أساس أنه يتصرّف بعقليّة التاجر أو رجل الأعمال، لم يكن في يوم من الأيام يرغب في وجود عسكري دائم في سوريا، الأمر الذي يفسر دعوته الدائمة الدول العربيّة الحليفة لبلاده إلى إنشاء "ناتو" عربي يحل مكان القوات الأميركيّة.

هذه الدعوة لم تلقَ الأذان الصاغية، أو على الأرجح لا تملك تلك الدول القدرة على ترجمتها، لا سيما أن أغلبها منشغل في أزماتها الداخلية، لا سيما السعودية ومصر، وبالتالي كان من الضروري أن يبحث ترامب عن خيار آخر، مع العلم أن تلك الدول كانت قد بدأت منذ أشهر طويلة في التنسيق مع "قوات سوريا الديمقراطية"، في إطار صراعها مع المحور الإقليمي الآخر الذي يدور في فلك واشنطن، أي تركيا وقطر، وبالتالي هي أيضاً كانت تطمح إلى إستغلال تلك القوات في هذا الصراع.

وفي حين من الممكن التأكيد بأن "قوات سوريا الديمقراطية" هي الخاسر الأكبر من القرار الأميركي، نظراً إلى إعتمادها على الدعم الذي تؤمنه واشنطن لها بشكل شبه كامل، من الضروري التنبه إلى نقطة جوهرية، هي عدم دعم الدول الأوروبيّة، التي تشارك أميركا في عضوية التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب، هذا القرار، بالإضافة إلى أن معظم مراكز صنع القرار في الولايات المتحدة لم تكن على علم مسبق به على ما يبدو، ما يعني أنه يعود بشكل أساسي إلى ترامب.

في هذا الإطار، تبرز جملة من المعطيات الأساسيّة، أولها أن واشنطن ليست في وارد التخلي عن تحالفها مع تركيا، العضو في حلف شمال الأطلسي من أجل "قوات سوريا الديمقراطية"، خصوصاً أن أنقرة كانت قد بدأت بالتحول إلى حليف أساسي لموسكو وطهران، كما أن الدول العربية، التي تدور في فلك الرياض، بدأت في التوجه نحو المصالحة مع دمشق، التي كانت قد عبرت مؤخراً، على لسان وزير خارجيتها وليد المعلم، بأنها لا تقبل بوجود كيان إنفصالي على أراضيها، الأمر الذي كان يركز عليه المسؤولون الروس في الفترة الأخيرة، وهو كان من أدوات تزكية الخلافات بين الحكومتين الأميركية والتركية.

إنطلاقاً من ذلك، يأتي السؤال عما سيجنيه ترامب من الإستمرار في دعم "قوات سوريا الديمقراطية" في المرحلة المقبلة، في حين هو يواجه معارضة قوية من جانب روسيا على المستوى الدولي، ومن جانب تركيا على المستوى الإقليمي، في حين لا تبدو باقي القوى الإقليمية الفاعلة مستعدة لخوض المواجهة عن واشنطن، أيّ أنه في حال قرر البقاء في هذا الموقع، عليه المغامرة وحيداً في الصدام مع موسكو وأنقرة، الأمر الذي لا يريده، بل هو كان خلال حملته الإنتخابية يعتبر أن أي دور سيقوم به الجيش الأميركي في الخارج يجب أن يكون مقابل بدل مالي من قبل الحلفاء، سواء كانوا الأوروبيين أو العرب أو دول شرق آسيا.

بناء على القرار الأميركي، من الضروري السؤال عن مصير منطقة شرق الفرات، إلا أنه يجب الأخذ بعين الإعتبار خيار تراجع ترامب، خصوصاً أن الجدول الزمني للإنسحاب العسكري يصل إلى نحو 4 أشهر من الممكن أن تتبدل خلالها الكثير من المعطيات، لكن من حيث المبدأ تجد تركيا الفرصة اليوم سانحة أمامها لتنفيذ تهديداتها ضد "قوات سوريا الديمقراطية". بالتزامن لا تمانع موسكو وطهران ودمشق، ولو بصورة غير مباشرة، هذا الأمر، لضرب خيار الإنفصال الكردي، مع العلم أن القيادات الكردية كانت تؤكد بشكل دائم أنه غير موجود في أدبياتها، كما أن الوقائع الجديدة قد تدفع "قوات سوريا الديمقراطية" إلى العودة للمفاوضات مع الحكومة السوريّة، لكن بسقف شروط أدنى من السابق، بسبب خسارة الدعم الأميركي.

في المحصلة، يضع قرار الإنسحاب الأميركي منطقة شرق الفرات أمام سيناريوهات معقّدة، بسبب تعدّد اللاعبين الدوليين والإقليميين على الساحة السوريّة، لكن الأكيد أنه سيكون مفصلياً في مسار الأزمة القائمة منذ العام 2011، ولا يمكن فصله عن الترتيبات الأميركية الروسية القائمة منذ أشهر طويلة.