كان مِن المُقرَّر أَنْ أُواصِل عرضَ الفَساد المُستشري في ​اسرائيل​، في محطَّتنا الأُسبوعيَّة مع ملفِّ ​الفساد​ على "النَّشرة"، غير أَنَّ التَّطوُّرات البَيروتيَّة كما في ​اسطنبول​ على صَعيد التَّظاهر في الشَّارع، قَد حَوَّلَت اتِّجاه كِتابتي إِلى مَكانٍ آخر...

إِنَّ الدُّول المَنْخُورة بِالفَساد، هي صَيْدٌ ثَمين للتَّدخُّلات الأَجنبيَّة، الَّتي قد تُحرِّك الشَّارع المُلْتَهبَ بِشَراراتِ الغَلاء والتَّضخُّم والمَطالِب الاجْتماعيَّةِ الَّتي لا نِهايةَ لَها... غَيْرَ أَنَّ ذلك لا يَعني البَتَّة أَنَّ أَيَّ تَظاهرةٍ مَطلبيَّةٍ تَنْطلِق مِن هُنا أَو هُناك، يَكون "الخارجُ" داعِمًا لها... إِلاَّ أَنَّ تَقاطُع المَصالِح الخارجيَّة مع المَطالِب الاحْتِجاجيَّة الدَّاخليَّة، يَخْلُق حَتمًا "كَمَّاشةً" يَصْعُب على الحُكوماتِ الإِفلاتُ مِنْها. كما وأَنَّ الوضعَ الدَّقيق يَفْرض على الجَميع التَّحلِّي بِقدرٍ كبيرٍ مِن الوَعي، وحُسن التَّصرُّف والاحْتِكام إِلى العَقْل والضَّمير والحسِّ بالمسؤوليَّة الوطنيَّة... وبالتَّالي طَرح السُّؤَال: "ماذا نَحن فاعِلون"؟.

وخيرُ مِثالٍ على ما وَرَدَ أَعلاه، التَّظاهُرات المَطلَبيَّة في تُركيا، المُندَلعة السَّبْت الماضي في 22 كانون الأَوَّل 2018، والَّتي هي فِي الواقع امتدادٌ لِغَيرها من التَّظاهُرات. فقد تَظاهر آلافُ الأَتراك السَّبت الماضي، في شَوارع مَدينة "اسْطَنبول"، احْتِجاجًا على غَلاء المَعيشَة، وارتفاعِ مُعدَّل التَّضخُّم. ورفع المُتظاهِرون لافتاتٍ تُشير إِلى تَحرُّك "السِّتْرات الصَّفراء" كما حَدَث في فَرنسا حَيْثُ انْطلقَت التَّظاهُرات ضدَّ ارْتِفاع أَسْعار المَحْروقات أَوَّلاً، ومِن ثَمَّ توسَّعَت اللائِحةُ المَطلبيَّةُ لاحِقًا أَكثَر...

وقَد شارك في التَّظاهُرة التُّركِيَّة الَّتي نظَّمَتْها "كونفدراليَّة نِقابات مُوَظَّفي القِطاع العامِّ"، أَشخاصٌ مِن مُخْتَلِف المَناطق، بما فيها مُحافَظات "أَدرنة"، و"بُورصة"، و"يالُوفا". وهتف المُتَظاهِرون لِثالُوث: "العَمَل، الخُبْز والحُرِّيَّة"، رافعين لافِتاتٍ كُتِب عليها: "الأَزْمَة لهم والشَّوارِع لنا" و"يونيو"، في إِشارةٍ إِلى التَّظاهُرات الحاشِدة الَّتي شَهِدَتْها تُركيا في حُزيران (يونيو) 2013، ضدَّ الرَّئيسِ التُّركيِّ رَجَب طَيِّب إِردوغان، الَّذي كان حينَها رئيسًا للوزراء، عندما انْطَلقَتِ احْتِجاجًا على "مَشروع بِناء مركز تسوُّق في حَديقة غيزي" بِالقرب من "مَيْدان تَقسيم" في وَسَط اسْطَنبول.

التَّظاهرة الغَوْغائيَّة

وخلافًا لِتَظاهُرة اسْطَنبول الَّتي حمَلت رِسالةً واضِحةً ثُلاثيَّة "الأَبعادِ"، فقد امْتازَت تَظاهرة وَسَط ​بيروت​، الأَحد الماضي بِمنحاها "الغَوْغائِيِّ"، مِن حَيْث المَطالب وتَكبير الحَجَر، ومَن يُريد أَلاَّ يُصيب الهَدف، فَما عليْه إِلاَّ تَكبير الحَجَر...

فَخلال النَّقل التِّلفزيونيِّ المُباشر، تَعمَّدْتُ الاسْتِماع جيِّدًا إِلى حَوالي 10 من المُشارِكين في تَظاهُرَة بَيْروت، ولَم أَلحظْ أَيَّ تَقاطُعٍ في المَطالب بين المُتَظاهرين، الَّذين دعا أَحدُهم إِلى "إِسقاط النِّظام"، فيما استَثْنى مُتظاهِر آخَر مِن "مُعادَلة الإِسْقاط" تِلك زَعيمًا "يَكنُّ له الاحْتِرام"، واسْتَثنى ثالثٌ زَعِيمًا آخَر، وقال رابِعٌ: "فَلْيَسْرِقوا ولَكِنْ فَلْيُؤَمِّنوا لنا العَمَل"، وآخرُ قَصَد التَّظاهرة طَلَبًا لِمُساعدةٍ ماليَّةٍ لابْنَتِه المَريضَة، وسادِسٌ طالَب بِمنزلٍ كي يَعْقِد قِرانه، وسابعٌ مُتَزَوِّجٌ لكنَّه نَزِل إِلى الشَّارع لأَنَّ زوجَته حاملٌ بِثلاثَة أَطفالٍ وهو لا يعملُ الآن... وفي اختِصارٍ فإنَّ حالاً مِن "اللا وعي الشَّعبيِّ" تُهَيْمِن...

وهُنا دار الجَدل عبر شاشة التَّلفزة بين مَن تسنَّى له الزَّواج ومَن لم يتسَنَّ له ذلك، إِلى أَنْ عمَّت الغَوْغائيَّة ودار "تَكسير" المُمتلَكات العامَّة والخاصَّة، وكلٌّ يُكسِّر "على ليلاه"، ولغايةٍ في نَفْسه...

كما وأَنَّ البَعض قَصد التَّظاهرة رَغْبة في الشَّتيمة وتلذُّذًا في التَّفوُّه بها. وفي سياق المُقابَلة التِّلفزيونيَّة، لم يَفهم المُشاهد بِماذا يُطالب أَخونا المُتظاهِرُ هَذا؟.

وهُنا يتدَخَّل المُراسل التِّلفزيونيُّ لِيَعتذر عن الكَلام البَذيء الصَّادر عن المُتظاهِر "المُحْترَم".

وفي هذا السِّياق لا يَعلم المُتظاهِرون أَنَّ النَّقل المُباشر يَجعلُهم يَخسَرون بَدَلاً مِن رفع رصيدِهم الشَّعْبيِّ، ذلك لأَنَّ الغَوغائيَّة لا يمكنُها أَنْ تَصِل بالمُتَظاهِرين إِلى أَيِّ مكانٍ... فالإِعلام يُعرِّي وَرقة التِّين فَتَظهر التَّفاصيل على طريقةِ "ربِّي كما خلَقْتَني"...

وبالعودة إِلى تَظاهرة 22 كانون التُّركيَّة، فقد أَتَت بعد نحو أُسبوعٍ من تظاهرةٍ أُخرى كانت دعَت إِليها "الكونفدراليَّة"، وشارك فيها الآلافُ احْتِجاجًا على غَلاء المَعيشة في "​ديار بكر​" جنوب شَرْقيِّ البلاد.

وهُنا ثمَّة مُفارقة بَيْن "كونفداريَّةٍ" تَدعو إِلى التَّظاهر في اسْطنبول، وفي شكلٍ مُمَنْهَج لتَحقيق المَطالب، ولأَهدافٍ لا تَدعو إِلى الانْتحار الشَّعبيِّ، وبَيْن مَجهولين يَدْعون إِلى التَّظاهر عبر التَّواصل الاجتماعيِّ مُطْلقينَ العِنان لمُخيِّلة كلٍّ من المُتَظاهرين، وحين تَبْدَأ أَعمال الشَّغَب والاعْتِداء على الأَمْلاك الخاصَّة والعامَّة، يتنكَّر الدَّاعون إِلى التَّظاهر، ويَغسِلون اليدَ مِن "حُفْنَة من المُشاغِبين"... وهم إِلى ذلك لا اسْتراتيجيَّة لهم لِتَحقيق مطالِبهم غير المُحدَّدَة أَصلاً!.