إلى جانب الخلاف على الحُصص والأحجام والحقائب والتوزيع المذهبي، وإلى جانب التدخّلات الخارجيّة في الشأن اللبناني وإرتدادات الملفّات الإقليميّة على الداخل، يستمرّ تعثّر تشكيل الحُكومة المُقبلة نتيجة سبب أساسي تعود جُذوره إلى تاريخ الدُخول في ما إصطلح على تسميته "التسوية الرئاسيّة" والتي أنهت سنتين ونصف السنة من الفراغ في سدّة الرئاسة، وفتحت الباب أمام الإتفاق على قانون إنتخابات نيابيّة جديدة، ومهّدت الطريق أمام إنتظام الحياة السياسيّة ككلّ. لكن لماذا بدت الأمور مُتعثّرة منذ لحظة إنطلاق مُفاوضات تشكيل الحُكومة المقبلة حتى اليوم؟.

بكل بساطة، لأنّ نقطة الخلاف الرئيسة والأساسيّة تتمثّل في تضارب كبير بين "التسوية الرئاسيّة" التي قامت بين "التيّار الوطني الحُرّ" من جهة وكل من "القوات اللبنانيّة" في مرحلة أولى ثم "تيّار المُستقبل" في مرحلة ثانية من جهة أخرى، وسعي "​حزب الله​" إلى فرض موازين سياسيّة داخليّة إنطلاقًا من نتائج الإنتخابات النيابيّة ومن نتائج الحرب السُوريّة وغيرها من الحروب الإقليميّة أيضًا.

وفي هذا السياق، كان رئيس حزب "القوات اللبنانيّة" ​سمير جعجع​ يُراهن على أنّه في مُقابل دعم وتبنّي ترشيح العماد ​ميشال عون​ إلى سُدّة الرئاسة، سيكون الشريك المسيحي في السُلطة طوال عهد الرئيس عون، وكان رئيس "تيّار المُستقبل" ​سعد الحريري​ يُراهن من جهته على أنّه في مُقابل الدُخول في "التسوية الرئاسيّة"، سيضمن تمثيله للطائفة السُنّية بصفته الطرف الأقوى فيها، وسيكفل أيضًا تسلّم منصب رئاسة الحُكومة طوال عهد الرئيس عون. وبعد أن جرى التقيّد إلى حدّ ما بهذا الإتفاق عند تشكيل الحكومة الأولى خلال ولاية الرئيس عون، أي حُكومة تصريف الأعمال الحاليّة، إصطدمت عمليّة تشكيل الحُكومة الثانية والتي لم تنته فُصولاً بعد، بأكثر من مسألة هزّت أساسات التسوية. وفي هذا السياق، يُمكن تعداد ما يلي:

أوّلاً: تقلّص نُفوذ القوى التي كانت محسوبة على "14 آذار" بشكل واضح مع إجراء الإنتخابات النيابيّة وفق القانون النسبي وليس الأكثري، وكانت الخسارة الأبرز من حصّة "تيّار المُستقبل".

ثانيًا: عدم سُقوط النظام السُوري، بسبب التدخّل العسكري المُباشر من جانب روسيا وقوى عدّة محسوبة على إيران، في مُقابل إنقسام الدول التي حاولت إسقاطه وتقاتل الجماعات التي تدعمها.

ثالثًا: تدهور العلاقة بين "القوات" و"التيّار" بسبب إتهام الأولى للثاني بعدم التقيّد ببنود "إتفاق معراب"، وإتهام الثاني للأولى بأنّها لم تدعم "العهد" كما وعدت.

رابعًا: توسّع نُفوذ "حزب الله" داخليًا وإقليميًا، وتصرّفه من موقع المُنتصر داخليًا، وسعيه لإحكام قبضته وقبضة القوى التي تدور في فلكه، على مفاتيح السُلطة في لبنان، بعد أن كان منذ عقد من الزمن فقط يستخدم ورقة الميثاقيّة وورقة التظاهرات والإعتصامات الشعبيّة، للوقوف بوجه قرارات الأغلبيّة الحاكمة في حينه وغير المُؤيّدة لإزدواجيّة السلاح في الدولة اللبنانيّة.

وبالتالي، التصادم اليوم هو بين مُحاولة كل من "تيّار المُستقبل" و"القوات اللبنانيّة" الإبقاء على الجزء الأكبر من بُنود "التسوية الرئاسيّة" في مُقابل سعي "حزب الله" إلى فرض توازنات سياسيّة داخليّة جديدة مبنية إنطلاقًا من أغلبيّة عدديّة حملها مجلس النواب اللبناني الجديد، بعيدًا عن أي إتفاقات سياسيّة جانبيّة. والمُفارقة أنّ "التيّار الوطني الحُرّ" الذي راهن بدوره على أنّ "التسوية الرئاسيّة" ستجعله يقبض بإحكام على السُلطة، تفاجأ بوجود عراقيل بالجملة لحُكمه. وإذا كان "التيّار" و"القوات" إختلفا على حجم الحصص الوزاريّة لكل منهما، وعلى تفسير الثقل الشعبي الداعم لكل من "القوات" و"التيّار" من دون "الحُلفاء"، فإنّ السعي لعرقلة حُصول كل من رئيس الجمهوريّة و"التيّار" على أغلبيّة الثلث زائد واحد على طاولة مجلس الوزراء من قبل "الثُنائي الشيعي" يدخل في سياق رفض إطلاق يد "التيّار" ورئيسه الحالي ورئيسه السابق أيضًا في الحُكم. والمُعارضة لمُحاولات رئيس "التيّار" وزير الخارجية في حكومة تصريف الأعمال ​جبران باسيل​ توسيع نُفوذ "تياره" في الحُكم تواجه بشكل شبه جَماعي، بحيث يُمكن القول إنّ المسألة لم تعد محصورة بصراع على الحُصص بين حزبين مُحدّدين، بل بصراع على الحُكم والسُلطة والنُفوذ السياسي والطائفي والمذهبي ككل.

ويبدو أنّ التنازلات المطلوبة للسماح بتشكيل الحُكومة لم تعد محصورة بأن يرضى كل من "المُستقبل" و"القوّات" بأقليّة عدديّة على مُستوى السُلطة التنفيذيّة فحسب، بل بأن يرضى "التيّار الوطني الحُرّ" أيضًا بحصّة لا تُخوّله الإمساك بالقرارات بشكل حاسم على طاولة مجلس الوزراء. وبدأ الحديث عن مُحاولات جدّية لإفشال العهد الرئاسي للعماد عون، بعد أن إستنفذ أكثر من ثلثه، في خلافات على مطالب مُحدّدة، بشكل يفوق بأضراره أضعاف ما يُمكن أن يتمّ تحصيله من مكاسب من جانب من يتمسكون بهذه المطالب! فمن المعروف أنّ زخم وإنجازات أي عهد رئاسي تتركّز في نصفه الأوّل، وبعد ذلك يبدأ الخط الإنحداري قبل الدُخول في صراع الإنتخابات النيابيّة والرئاسيّة المُقبلة. وحتى اليوم، يُواصل "حزب الله" رفض تسليم رئيس الحُكومة المُكلّف أسماء وزرائه، في ضغط مُباشر لتمرير مطالبه، ولا يبدو أنّ هذا الكباش قد إقترب من نهايته على الرغم من الأضرار الفادحة التي لحقت بالوضع اللبناني على مُختلف المُستويات.