دخلت أزمة تشكيل الحكومة ال​لبنان​ية الجديدة مرحلتها الأكثر تعقيداً.. إنها المرحلة الأصعب من المراحل التي مرّت فيها عملية المشاورات مع الكتل النيابية المختلفة، والتعقيد هذه المرة يكمن سببه الأساسي في إصرار الرئيس ​سعد الحريري​ على رفض تمثيل النواب الوطنيين من أهل السنة لأسباب سياسية وتمثيلية في آن معاً. فتمثل هؤلاء النواب يعني تكريس التعدّدية السياسية داخل ​الطائف​ة السنية على مستوى السلطة التنفيذية بين تيارين مختلفين في الموقف من المقاومة والعلاقة مع سورية، بعد تكريس هذه التعدّدية على المستوى البرلماني بفعل نتائج الانتخابات النيابية.. النواب الستة في ​اللقاء التشاوري​ ينتمون إلى فريق وطني أوسع يدعم خيار المقاومة ضدّ الاحتلال ويؤيد العلاقات المميّزة مع سورية ويدعو إلى أفضل وأحسن العلاقات معها، وهو يتناقض في ذلك بشكل كامل مع موقف ​تيار المستقبل​ وكلّ أطراف قوى ​14 آذار​.. كما أنّ تمثيل النواب الستة يعني إنهاء مصادرة واحتكار تيار المستقبل لتمثيل الطائفة السنية داخل الحكومة وفي مؤسسات الدولة.. والذي ساد منذ تسلّم رئيس وزراء لبنان الأسبق ​رفيق الحريري​ مقاليد السلطة في أوائل التسعينيات من القرن الماضي وتمكنه من السيطرة وإحكام القبضة على مفاصل الدولة.. والعقدة مصدرها الرئيس الحريري الذي يصرّ على أن يبقى محتكراً أحادية التمثيل على صعيد الطائفة السنية، والحصول على حجم في الحكومة يتجاوز وزنه التمثيلي النيابي 20 نائباً الأمر الذي يتناقض بشكل واضح مع مبدأ تشكيل حكومات الوفاق الوطني ما بعد الطائف، والذي يقوم على توزيع المقاعد النيابية على أساس نتائج الانتخابات والتوازن الذي تعكسه في ​المجلس النيابي​..

في مقابل هذه العقدة الحريرية، هناك إصرار من قبل الفريق الوطني، الذي يتشكل منه تحالف ​قوى 8 آذار​، على كسر هذا الاحتكار انطلاقاً من التوازن الجديد في ميزان القوى الداخلي، والذي تعزّزه التحوّلات في موازين القوى الإقليمية والدولية الناشئة من انتصارات محور المقاومة في سورية، والتراجع الملحوظ في مشروع الهيمنة الغربي الصهيوني وأدواته الرجعية..

أمام هذا الوضع يبدو أنّ عقدة تمثيل اللقاء التشاوري لا يمكن تجاوزها بسهولة لأنّ أيّ حكومة يقرّر الرئيس المكلف تشكيلها من دون تمثيل النواب الستة سيؤدّي إلى عدم مشاركة ​حزب الله​ و​حركة امل​ في الحكومة مما يحول دون إمكانية تشكيلها، ولهذا فإنّ الحلّ لهذه العقدة مرتبط بأن يقدّم أحد الأطراف الأساسية تنازلاً.. لكن السؤال، من هو الطرف الذي سيقدّم هذا التنازل؟

في هذا السياق هناك ثلاثة سيناريوات:

السيناريو الأول: ان يتنازل الرئيس الحريري ويقرّ بتعددية التمثيل على مستوى الطائفة السنية، على غرار ما هو قائم في الطوائف الأخرى، وبالتالي يوافق على التخلي عن وزير من حصته لتمثيل اللقاء التشاوري.. غير أنّ الدلائل تؤشر إلى أنّ الحريري ليس في وارد تقديم مثل هذا التنازل لأنه سيؤدّي إلى توليد أزمة له داخل فريق تيار المستقبل وبالتالي المزيد من إضعاف دوره وحضوره في السلطة وعلى مستوى الشارع.. ولهذا فإنّ الرئيس الحريري على الرغم من خسارته الكبيرة في الانتخابات يتصرّف في تشكيل الحكومة وكأنه لم يخسر أكثر من ثلث نواب كتلته التي حاز عليها في انتخابات 2009..

السيناريو الثاني: أن يتراجع الفريق الوطني عن التمسك بحق تمثيل اللقاء التشاوري تحت عنوان تجنيب البلاد المزيد من التأزم.. غير أنّ هذا الاحتمال ضعيف جداً لانّ ايّ تراجع من هذا النوع سوف يؤدّي إلى تفجير أزمة كبيرة في صفوف الفريق الوطني وحدوث تشققات وانقسامات في صفوفه..

السيناريو الثالث: تخلي رئيس الجمهورية ​ميشال عون​ عن وزير من حصته لتمثيل نواب اللقاء التشاوري، لكن الرئيس عون يرفض ذلك لأنه سيؤدي إلى إضعاف تمثيله المسيحي، وهذا ما حصل عندما جرت محاولة تمرير توزير جواد عدرا باسم اللقاء التشاوري لكن على أن يبقى من ضمن كتلة الرئيس الأمر الذي رفضه اللقاء التشاوري مما أعاد الأمور إلى نقطة الصفر.. في حين أنه حتى ولو تمثل اللقاء التشاوري بحصة من رئيس الجمهورية لا يعني أنّ اللقاء قد حصل على تمثيل حقيقي، لأنّ الوزير السني لدى الرئيس عون هو عملياً من حصته حصل عليه عبر مبادلته بوزير مسيحي مع الرئيس الحريري الذي لم يتخلّ عن احتكاره لتمثيل الطائفة السنية.. ولهذا فإنّ هذا السيناريو في الحالتين يبقي الرئيس الحريري منتصراً لأنه يكرّس احتكاره للتمثيل.. فهو لم يتخلّ عن أيّ وزير من حصة الطائفة السنية ولم يعترف بالتعددية داخل الطائفة.. ولهذا فإنه من الخطأ أن تكون مشكلة تمثيل اللقاء التشاوري مع الرئيس ميشال عون أو التيار الوطني، وما حصل من تباين مع التيار الوطني نتيجة الخلاف على طريقة تمثيل اللقاء التشاوري إنما يخدم الرئيس الحريري ويحقق هدفين، الإبقاء على احتكاره لتمثيل الطائفة السنية من ناحية، وإثارة الخلاف بين ​التيار الوطني الحر​ وفريقه آذار من ناحية ثانية..

انطلاقاً مما تقدّم يبدو من الواضح أنّ حلّ عقدة تمثيل اللقاء التشاوري ليس بالأمر السهل، ما لم يحصل حدث كبير في لبنان او المنطقة يدفع الرئيس الحريري الى التراجع والقبول بالموافقة على التخلي عن حصرية تمثيل الطائفة السنية ويسلم بالتعددية داخلها وعلى مستوى السلطة التنفيذية..

انّ هذه العقدة وغيرها من العقد إنما تكشف مجدّداً عن عمق الأزمة التي يعاني منها لبنان نتيجة نظام المحاصصة الطائفية السياسية التي أفلست ولم يعد بالمكان تجاوزها وحلّ أزمات لبنان من دون قيام حراك وطني واسع عابر للطوائف قادر على خوض غمار معركة وطنية لخلق موازين قوى قادرة على فرض إلغاء الطائفية السياسية وبناء نظام المواطنية وتحقيق الاستقلال السياسي والاقتصادي والمالي الذي يحرّر لبنان من التبعية والارتهان للدول الغربية الاستعمارية.. التي تقف وراء تأسيس نظام الطائفية السياسية في لبنان لتبقى قادرة على التدخل في شؤونه الداخلية.