دراماتيكية وسريعة تبدو التحوّلات الإقليميّة هذه الأيام. قد يكون أبرزها إعلان الإمارات إعادة تطبيع العلاقات مع سوريا، عبر إعادة فتح سفارتها في دمشق، مع ما يحمله هذا القرار من معانٍ ودلالاتٍ كبرى، قد يكون من بينها التمهيد لصفحة جديدة في العلاقات بين ​الدول العربية​، ولا سيما الخليجيّة، وسوريا، ستتكشّف تباعاً.

وبعيداً عن القرار الإماراتي، حركة ناشطة تُرصَد على أكثر من محور، من الانسحاب الأميركي المفاجئ من سوريا، إلى التأهّب التركي لمعركة جديدة ضدّ الأكراد، مروراً بالاستنفار الإسرائيلي غير الجديد، عشيّة انتخاباتٍ مبكرة بدأ قرع الأجراس لها، ومعها بدأ التنافس على استقطاب الرأي العام، فيما يستمرّ التهويل على ​لبنان​، انطلاقاً من عملية "درع الشمال" والأنفاق المزعومة.

لكن، أين موقع لبنان من كلّ هذه التطورّات المتسارعة؟ وكيف يستعدّ لمواجهتها، وهو الذي دخل شهره الثامن من دون حكومة، في ظلّ غياب مؤشرات عن حركة جدية على هذا المستوى، أقلّه قبل بداية العام الجديد؟!.

نأي بالنفس... عن النفس؟!

يستمرّ لبنان ملتزماً سياسة "النأي بالنفس" المُعلَنة منذ سنوات، إزاء ​الحرب السورية​، في ظلّ معطياتٍ كثيرة تؤكد "استحالة" تغييرها في المدى المنظور، في ظلّ إصرار العديد من الأفرقاء على رفض مجرّد البحث بأيّ استراتيجيّة أو مقاربة جديدة في الوقت الحالي، ولو أنّ البعض يعتبر هذه السياسة "نظرية" لم تترجم فعلاً على أرض الواقع، في ضوء الانقسام اللبناني العمودي، بل دخول أكثر من طرف على خط الأزمة السوريّة، وفي الداخل السوري.

وفي وقتٍ بدأت التحوّلات في المنطقة تُرصَد على أكثر من مستوى، بدءاً من الإعلان الإماراتي غير المفاجئ عن فتح السفارة، والذي تلاه سريعاً إعلان بحريني عن استمرار العمل في السفارة، والحرص على تعزيز العلاقات، وهما خطوتان يقول الكثيرون إنّهما تمهّدان بشكلٍ أو بآخر، لـ"انقلابٍ" في الموازين العربية، تُطرَح علامات استفهام حول موقع لبنان من هذه المعادلة، وهو "الجار" الأقرب لسوريا، والذي تربطه بها الكثير من المصالح المشتركة على أكثر من صعيد.

ومع أنّ خطوتي الإمارات والبحرين ما كانتا لتحصلا لولا وجود "ضوء أخضر" يرتقي إلى مستوى "المباركة" من جانب المملكة العربية السعودية، كما يعتقد كثيرون، فإنّ لبنان يبقى حتى إشعارٍ آخر، عاجزاً عن الالتحاق بالركب، أولاً بالنظر إلى "الحساسية" التي سبق أن عبّر عنها رئيس ​الحكومة​ المكلّف ​سعد الحريري​، الذي كان لافتاً رفضه مجرد "مصافحة" السفير السوري المعتمَد لدى لبنان ​علي عبد الكريم علي​ الشهر الماضي، فضلاً عن قوله باستمرار إنّ من يبحث عن علاقات مع سوريا عليه أن يبحث عن غيره.

وإذا كان البعض يعوّل على رئيس الجمهورية ​ميشال عون​ ووزير الخارجية في حكومة تصريف الأعمال ​جبران باسيل​ لإيجاد "المَخرَج" لمثل هذه "الحساسيّة"، خصوصاً أنّ الرجلين سبق أن أعلنا بدورهما عزمهما إعادة العلاقات إلى سابق عهدها، انطلاقاً من مصلحة لبنان أولاً، وانعكاسها عليه إيجابياً على مختلف المستويات، وخصوصاً من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية، فإنّ العائق الجوهري يبقى افتقاد لبنان، حتى إشعار آخر أيضاً، إلى حكومة أصيلة يمكنها اتخاذ أيّ قرارات مصيرية اليوم، وهنا بيت القصيد.

الحرب غير مستبعَدة؟

وإذا كانت تطورات الوضع السوري تقرع الأجراس الدبلوماسية، التي لا يبدو لبنان جاهزاً لمواكبتها، في ظلّ الوضع الذي يعيشه في الوقت الحاليّ، فإنّ أجراساً قد تكون أخطر تُقرَع في مكانٍ آخر، ويبدو أنّ لبنان عاجزٌ أيضاً عن مواكبتها كما يجب، ألا وهي الأجراس العسكرية، الناتجة عن التهويلات الإسرائيلية المستمرّة ضدّ لبنان، من بوابة عملية "درع الشمال" التي أطلقها الجيش الإسرائيلي أخيراً.

قد يكون لبنان مرتاحاً نسبياً إلى الواقع الجنوبي، باعتبار أنّ هناك "توازن ردع" استطاع "​حزب الله​" أن يكرّسه على مدى الأعوام الماضية، ما يجعل الإسرائيلي يتردّد في شنّ أيّ عدوانٍ على لبنان مهما كانت دوافعه وأسبابه. وقد يكون مرتاحاً كذلك بالنظر إلى وجود الكثير من المؤشرات التي تؤكد أنّ التهويل الإسرائيلي "نفسيٌّ" ليس إلا، وأنّ لا نيّة لدى أيّ من الأطراف لترجمته في الوقت الحالي، باعتبار أنّ أبعاد التهويل داخلية إسرائيلية بالدرجة الأولى، ومرتبطة بالسباق المحموم على استقطاب الرأي العام، في ظلّ الخلافات الداخلية التي بدأت تجلياتها من خلال استقالة وزير الدفاع السابق أفيغدور ليبرمان، وفضائح رئيس الحكومة بنيامين نتانياهو المتعلقة بالفساد والرشوة، والتي أدّت إلى حلّ الكنيست والدعوة إلى انتخابات مبكرة.

لكن، وعلى الرغم من الأبعاد الداخلية للتهويل الإسرائيلي، فإنّ خيار الحرب يبقى غير مستبعَدٍ بالنسبة لكثيرين، خصوصاً أنّ التجربة أثبتت أنّ أحداً لا يستطيع أن يأمن شرّ إسرائيل، وبالتالي على لبنان أن يترك كلّ الخيارات على الطاولة، ما يطرح علامات استفهام أيضاً عن الجاهزية اللبنانية للحرب، في ظلّ استمرار الانقسام الداخلي، والذي تجلى حتى في قضية الأنفاق، مع ذهاب بعض الأطراف اللبنانيين إلى تحميل "حزب الله" مسؤولية تعريض أمن لبنان للخطر، من خلال انتهاك القرار الدولي 1701 عبر إقامتها.

ولعلّ ما يفاقم غياب "الحصانة اللبنانية" في مواجهة أيّ مغامرةٍ عسكريّةٍ من الجانب الإسرائيلي، بمُعزلٍ عن الاستعدادات العسكرية لها، من جانب الجيش اللبناني و"حزب الله" على حد سواء، يتمثّل في غياب الحكومة، بل في الصراعات الداخلية الآخذة في التزايد، حتى بين ألدّ الحلفاء. وفي هذا السياق، لا تبدو الشكاوى التي يقدّمها لبنان بين الفينة والأخرى ضدّ إسرائيل، بتوجيه من وزير الخارجية جبران باسيل، كافية لمواجهة ما يُرسَم ويُخطَّط في الخارج، وهو ما ينبغي على جميع المسؤولين إدراكه.

"ورقة" في يد الآخرين

يحلو للكثيرين تفسير أيّ تطوّر يحصل في لبنان من خلال ما يحصل في الخارج، على اعتبار أنّ لبنان ليس جزيرة منعزلة، بل إنّه "ورقة" في يد القوى المتصارعة، يحرّكونها كيفما أرادوا.

هكذا، اعتبر كثيرون "الانفراج" الحكومي الأخير ترجمة لكلمة سرّ إقليمية، تماماً كـ"الانفجار" الذي تزامن مع "ضبابيّة" في الصورة الإقليميّة، تزامناً مع الانسحاب الأميركي المفاجئ من سوريا، والذي فتح المنطقة أمام احتمالاتٍ غير واضحة المعالم.

وأبعد من هذا وذاك، وإذا كان مطلوباً أن ينأى لبنان بنفسه عن أزمات الإقليم ويحلّ مشاكله بنفسه، فإنّ المطلوب قبل كلّ شيء أن يكون لبنان جاهزاً لمواكبة تحولات الإقليم، خصوصاً تلك التي لا يختلف اثنان على وجود انعكاسات مباشرة لها عليه.

ولا شكّ، انطلاقاً من كلّ ذلك، أنّ الحكومة، وإن رأى كثيرون أنّها لن تقدّم ولن تؤخّر في المشهد، يبقى الخطوة الأولى المطلوبة، بعيداً عن ترف التنازع حول مقعدٍ بالزائد أو بالناقص!.