دخل التأليف شهره الثامن، وعدّاد الوقت ماضٍ في تمريك الأيام والأسابيع والأشهر الضائعة، وأما العدّاد السياسي، فيجد صعوبةً في إحصاء التقلبات غير المفهومة في العلاقات بين القوى السياسية، وفي فهم مسرحية التأليف بسيناريوهاتها العشوائية التي أعدمت الثوابت والمبادئ، وكل عناوين النزاهة والوطنية.

انقضت سنة صعبة بكل المقاييس؛ منذ أيار الماضي وحتى اليوم، ومسلسل التكاذب مستمر، والناس محتارة لم تعد تعرف الى أيِّ اتّجاهٍ تميل، ومَن تصدّق وماذا تصدّق؛ سياسيون يبدّلون وجوههم، كل يوم موقف، الحليف أصبح خصماً لدوداً تُبنى معه متاريس العداوة، والصديق مارقاً نزقاً تنتفي معه لغةُ الوفاء، والخصمُ حليفاً ودوداً تُحكى معه قصص الف ليلة وليلة في كتاب العشق والغرام!

المتكاذبون لم يضعوا بعد نهايةً لهذا المسلسل. كلٌّ منهم يظنّ نفسَه مارداً، وأنه هو أصل وجود لبنان، لا بل أبو الدنيا كلها، رافضاً الإقرار بالامر الواقع اللبناني وتركيبته، كما هي، لبلد خلق بطريقة فريدة وجدت لكل طائفة مربّعها ورسّم حدودَها داخل مربّعات متعايشة ومتساكنة في زواج ولو بالإكراه، تحت سقف «لا غالب ولا مغلوب». والمشكلة الكبرى أنّ احداً لا يعرف حدوده، ويستميت لتجاوز حدود مربّعه والخروج من تحت السقف المرسوم ولو كره الآخرون.

هنا أصل المرض، الذي تفشّى بشكل خطير خلال ​الانتخابات النيابية​ في المنحى الإلغائي الذي شهره البعض في كل الاتجاهات، وبعد الانتخابات في محاولة تجاوز نتائجها بسلوك المنحى الاستئثاري ب​الحكومة​ وفرش حقائبها على مائدة «الجوعان» و»الفجعان» و»النهمان».

هذا المنحى، أطاح بالعلاقة بين «التيار الوطني الحر» و»القوات اللبنانية» ودفن تفاهم ​معراب​. وعمّق الخلاف بين «التيار» وتيار «المردة»، وابقى العلاقة بين «التيار» وحركة «أمل» خلف المتاريس، وقطع العلاقة بين «التيار» و​وليد جنبلاط​ قبل أن يعيد الأخير تموضعه ويتراجع. ووتّر العلاقة بين «التيار» ومن خلفه رئيس الجمهورية مع الرئيس المكلّف، ودخلا في حرب صلاحيات وسوء تفاهم لأشهر سواءٌ مع رئيس الجمهورية او مع الوزير ​جبران باسيل​، دخل خلاله الرئيس المكلّف في ما يشبه «الاعتكافَ المقنّع»، وخصوصاً بعد الحملة الرئاسية الاخيرة عليه واتّهامه بالتقصير والتلويح بالعودة الى مجلس النواب وطرح مصير التكليف، عبر رسالة رئاسية بهذا المعنى الى المجلس، صرف النظر عنها بعد نصيحة رئيس المجلس النيابي ​نبيه بري​ بأنها تخرّب البلد وتؤدّي الى فتنة.

وأكثر من كل ذلك، فسّخ العلاقة بين «التيار» و«حزب الله»، مع «كلام كبير» متبادل بينهما بدا خلاله تفاهم ​مار مخايل​ كميّت مع وقف التنفيذ. والمجاملات الشكلية والمواقف العلنية عن الحرص على العلاقة وما شابه ذلك، والتبريرات ومحاولات تنظيم الخلاف، تلغيها الحرب المحتدمة بينهما على مواقع التواصل الاجتماعي. وكذلك الكلام عالي النبرة االذي يقال في مجالسهما البعيدة من الأضواء، ويقال هنا إنّ لقاءً حصل في الساعات الاخيرة في ​القصر الجمهوري​ بين رئيس الجمهورية وممثلين عن الحزب، وكان فيه الصراخُ عالياً.

على هذه الأرضية الرخوة فشل بناءُ الحكومة، وعلى الأرضية ذاتها تجري محاولات بنائها، فكيف يمكن أن يحصل ذلك؟

لقد خسر المراهنون على العيديات، وطارت الحكومة، وصارت بنداً اولاً في جدول اعمال السنة الجديدة، وثمّة كلام عن حراك جديد يقال إنه جدّي هذه المرة، وفرصة اخيرة لإنضاج هذه الطبخة المستعصية. واللواء ​عباس ابراهيم​ في الواجهة من جديد.

يقال إنّ حراك المدير العام للأمن العام يتمحور حول المبادرة الرئاسية، ولكن بمعزل عن حماسته التي تبدو شديدة لإنهاء هذا الملف وبلوغ حلّ مقبول من الجميع، كيف سيعبر الى النجاح؟

في الحراك السابق تعثرت المبادرة الرئاسية على حلبة تمثيل ​اللقاء التشاوري​ في الحكومة، جراء الالتباسات التي رافقت طرح اسم جواد عدرا للتوزير وكيفية هذا الطرح ومصدره، وصولاً الى تطييره. وبالتالي اصبحت هذه المبادرة في نظر كثير من السياسيين بحكم الساقطة كونها تعطي بيد وتاخذ بيد، والذي اكده ما اعتبروه انحرافها عن مضمونها الذي حمل تنازلاً من قبل رئيس الجمهورية عن الوزير السنّي من الحصة الرئاسية، وجميع القوى المعنية بالحكومة أبلغت بذلك، وبدا هذا الانحراف جلياً مع طرح اسم جواد عدرا، وعزّزه اصرار الوزير باسيل على انّ المُسمَّى من اللقاء التشاوري يُحتسب من حصة رئيس الجمهورية، وذلك بالتوازي مع «تسريب» من المحيط الرئاسي مفاده» صحيح انّ الرئيس تنازل عن وزيره السنّي، وأعطى اللقاء التشاوري حق تسمية الوزير البديل، إلّا انّ هذا الوزير البديل سيكون من حصته وليس من حصة اللقاء التشاوري او ايّ طرف آخر».

تلك الصورة، تقود الى القول بأنّ مهمة اللواء ابراهيم مع السنة الجديدة، قد تكون أصعب ممّا سبقها، خصوصاً وانّ الشرط الأساس لنجاحها يتطلب توفّر الأمور التالية:

الأول، أن تكون كل الطرق سالكة امام هذا الحراك، وتبادر الاطراف - إن كانت تريد انجاح المبادرة - الى تفكيك كل الالغام من طريقها لا أن تبقيها مزروعة لتنفجر في ايّ لحظة.

الثاني، أن تكون المبادرة الرئاسية ما زالت على قيد الحياة.

الثالث، أن يكون هناك قرارٌ جدّي من اصحابها هذه المرة بإنجاحها، لا أن تكون عرضة لانتكاسة جديدة، يمعنى أن يكون مضمونها جاذباً لأطراف ازمة التأليف الى صياغة حلٍّ توافقي. بمعنى أن ياتي هذا المضمون صريحاً لناحية التنازال الرئاسي عن الوزير السنّي من الحصة الرئاسية، وملبّياً لمطلب اللقاء التشاوري بأنّ مَن يسمّيه للتوزير في الحكومة، هو من حصته حصراً.

الرابع، أن يقترن الحراك بقبول الرئيس و»التيار» بحصة وزارية من 10 وزراء، فالإصرار على 11 وزيراً، معناه الحكم المسبق على هذا الحراك بالفشل المسبق. وثمّة اشارة اعتُبرت غير مشجعة وردت على لسان باسيل بعدم التنازل عن الحقوق.

الخامس، الحسم المسبق للأزمة المتجددة حول الحقائب، وهي أزمة شائكة ومعقدة، ومن شأن بقائها بلا حسم، أن يبقي الحكومة بعيدة من غرفة الولادة.

هناك مَن يقول إنه صرف النظر عن موضوع الحقائب، ولكن لا تأكيد لذلك من قبل الحريري أو باسيل أو «القوات» أو «حزب الله» أو الرئيس بري، الذي مازال يسأل عمّا أوجب نبش امور متفق عليها، ولم يجد بعد «القطبة المخفيّة»، التي أطاحت بالحكومة بعدما كانت على وشك أن تولد؟