إذا كانت استحقاقاتٌ عديدة طبعت العام 2018 لبنانياً، وأبرزها ​الانتخابات النيابية​ التي جرت بعد توقف "قسري" استمرّ تسع سنوات، وانبثق عنها مجلس نيابي جديد وفق قانون اعتمد النسبيّة للمرة الأولى في تاريخ لبنان، فإنّ أكثر ما طبع العام يبقى سقوط "التفاهمات" التي كانت سائدة على مدى الأعوام الماضية ككرة الثلج.

ففي وقتٍ يمكن القول إنّ العام 2018 كرّس انهيار تحالفي الثامن والرابع عشر من آذار، وهو ما بدا منطقياً في تراتبية الأحداث، منذ ما قبل انطلاق "العهد القوي" بموجب ما عُرفت بـ"​التسوية الرئاسية​"، فإنّ المفارقة التي خلص إليها أنّ "البدائل" المتمثلة بالتفاهمات السابقة واللاحقة لـ "التسوية" باتت هي الأخرى في "مهبّ الريح".

فمن "تفاهم معراب" الذي يمكن القول إنّه أصبح "في خبر كان"، إلى "تفاهم مار مخايل" الذي بات "ينازع" رغم تخطّيه سابقاً لأقسى "العواصف"، مروراً بـ"التسوية الرئاسيّة" التي باتت بحاجة إلى "حصانة"، يبقى السؤال، هل يؤسّس العام الجديد لتفاهماتٍ جديدة تطيح بكلّ ما سبقها؟!.

"في خبر كان"

قد يكون العام 2018 هو عام انتهاء الانقسام العمودي الذي ساد لبنان منذ العام 2005، على خلفيّة جريمة اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، بين معسكري ما عُرف بالثامن والرابع عشر من آذار. فعلى الرغم من أنّ المعسكرين المذكورين فقدا وهجهما قبل سنوات، مع انسحاب العديد من الأفرقاء منهما، وصولاً إلى التسوية الرئاسية التي خلطت كلّ الأوراق، إلا أنّ الانتخابات النيابية الأخيرة تكاد تكون "النقطة الفاصلة" على هذا الصعيد، إذ إنّ حلفاء الأمس خاضوها في وجه بعضهما البعض، بعيداً عن كلّ الثوابت والمبادئ التي لطالما شكّلت العنوان الأساسي لشعارات جميع الاستحقاقات السابقة.

لكنّ العام 2018 لم ينهِ فقط العمل بالتحالفين الأكبر في تاريخ لبنان الحديث، بل هزّ الكثير من التفاهمات التي طبعت الواقع السياسيّ اللبنانيّ على امتداد الأعوام القليلة الماضية، وأولها "تفاهم معراب" بين "​التيار الوطني الحر​" و"​القوات اللبنانية​"، وهو التفاهم الذي سبق الانتخابات الرئاسيّة، وأدّى إلى دعم رئيس حزب "القوات" سمير جعجع انتخاب ​الرئيس ميشال عون​ رئيساً للجمهورية. وإذا كانت الخلافات بين الجانبين عادت للظهور بشكل جليّ وواضح في حكومة تصريف الأعمال، مع تموضع كلّ منهما في وجه الآخر في الكثير من الملفات الحسّاسة، فإنّها وصلت إلى أوجها في الانتخابات النيابية، قبل أن تتفاقم في مرحلة المفاوضات الحكوميّة، والتي شكّلت "العقدة المسيحيّة" جزءاً أساسياً من الكباش الحاصل على خطها، وفُضِحت فيها الكثير من بنود التفاهم، وتبادل طرفاه الاتهامات المباشرة بـ"نسفه".

وعلى الرغم من أنّ "تفاهم مار مخايل" لطالما اعتُبِر عصياً على كلّ الاهتزازات، بعدما تجاوز الكثير من "المِحَن"، ما جعله محصّناً أكثر بكثير من "تفاهم معراب"، فإنّه هو الآخر اهتزّ هذا العام، اهتزازٌ بدأ مع الانتخابات النيابية التي تنافس فيها بعض مرشحي "​حزب الله​" و"التيار الوطني الحر" وجهاً لوجه في أكثر من منطقة لبنانية، وهي منافسة ولّدت الكثير من "الشحن" الذي لا يزال ملحوظاً لدى جماهير الطرفين. وما لم تفعله الانتخابات فعلته مفاوضات تأليف الحكومة، لينتهي العام على "كباش" غير مسبوق بين جماهير الفريقيْن، بل ذهاب البعض في "التيار" للقول إنّ "حزب الله" يتحمّل مسؤولية "تعطيل العهد وشلّه"، هو الذي لم يتجاوب مع كلّ المبادرات لحلّ "العقدة السنية"، التي يراها كثيرون مفتعَلة ومفبركة.

ووسط كلّ ذلك، لا يبدو أنّ "التفاهم" الذي أرسته "التسوية الرئاسية" بين رئيسي الجمهورية ميشال عون والحكومة ​سعد الحريري​ أفضل حالاً، ولو أصرّ جناحاه على تأكيد العكس بين الفينة والأخرى. ولعلّ ما يدفع إلى افتراض عدم وجود "حصانة" فعلية لهذا التفاهم ما شهدته مفاوضات تأليف الحكومة أيضاً من "مناوشات" بين الجانبين في أكثر من محطة، سواء في مرحلتها الأولى عند بحث العقدتين المسيحية والدرزية، أو ما حصل أخيراً مع ظهور العقدة السنية، والاجتهادات والفتاوى التي خرجت عن بعض المحيطين برئيس الجمهورية لجهة "اعتذار" رئيس الحكومة المكلّف، فضلاً عن التلويح بـ"رسالة رئاسيّة"، وكلّها طروحاتٌ لم تُرضِ "المستقبليّين" شكلاً ومضموناً.

تحالفات "على القطعة"

هكذا، وبين تفاهماتٍ سقطت نهائياً بالملموس، على غرار "تفاهم معراب"، وأخرى لا تزال تنازع مثل "تفاهم مار مخايل" و"التسوية الرئاسيّة"، يبقى الأكيد أنّ المعادلة السياسيّة في لبنان اختلفت مع نهاية العام بدرجة كبيرة، وأنّ ما كان شبه مضمونٍ في السابق لم يعد كذلك اليوم إلى حدّ بعيد، حتى في ما يتعلق بالتحالفات الاستراتيجيّة الكبرى.

وإذا كانت الانتخابات النيابيّة الأخيرة أرست مفهوماً جديداً عنوانه "التحالف على القطعة"، قيل إنّ تقاطع المصالح الانتخابيّة فرضه، فإنّ مؤشرات كثيرة توحي أنّه سيصبح سيّد الموقف في المرحلة المقبلة، وهو ما بدا واضحاً في مفاوضات تأليف الحكومة التي لم تنتهِ فصولاً بعد، في ظلّ غياب أيّ "بشائر" توحي بقرب "الفرج"، وإن ارتفع دخانه الأبيض في أكثر من مناسبة خلال الأسابيع الماضية، من دون أن يبلغ "الخاتمة السعيدة".

ولعلّ خير دليلٍ على ذلك يكمن في ما يعتبره البعض "العقدة المخفيّة" التي تحول دون تأليف الحكومة، وهي عقدة لا ترتبط عملياً وواقعياً لا بالإصرار على تمثيل "​اللقاء التشاوري​" ترجمة لنتائج الانتخابات النيابية، ولا بالاتفاق على هوية الوزير الذي يفترض أن يمثل "اللقاء"، بل ترتبط بإصرار "التيار الوطني الحر" على الحصول على "الثلث" في الحكومة، ومحاولة عدد من الأفرقاء الآخرين إحباط مثل هذا المسعى.

ويقول البعض إنّ جوهر هذه العقدة يكشف أنّ "التيار" يدرك أنّ التحالفات في المرحلة المقبلة ستكون "على القطعة"، ولذلك فهو يريد أن يكون الثلث "الضامن" بحوزته وحده، بمعزل عن أيّ "صديق" أو "حليف"، ليستطيع إنجاز ما وعد به مع انطلاقة "العهد"، من دون أن يكون لأحد فرصة "التشويش" عليه من خلال تعطيل مشاريعه، تحت عنوان حكومة الوحدة الوطنية.

وبهذه الطريقة، لن يكون "التيار" مضطراً إلى الوقوف إلى جانب "حزب الله" أو "​تيار المستقبل​" أو "القوات اللبنانيّة" أو غيرهم، التزاماً بأيّ تفاهمٍ مُبرَم، بل سيكون الاتفاق كما الخلاف وارداً مع كلّ هؤلاء، وفقاً للقضية والموضوع، بحيث أنّ الاتفاق مع "حزب الله" مثلاً في موضوعٍ معيّن، ربطاً بالسياسة الخارجية أو الصراع مع إسرائيل مثلاً، لا يلزمه بالانسجام معه في قضايا الداخل، وهكذا دواليك.

تيسير لا تكبيل...

يقول البعض إنّ "التحالفات على القطعة" التي أسّس لها "التيار الوطني الحر" في الانتخابات النيابية الأخيرة تعبّر بشكلٍ ما عن "السياسة" التي ينوي انتهاجها، لتحقيق ما يصبو إليه.

من هنا، يعتبر البعض أنّ "التيار" لا يريد عملياً نبذ كلّ التفاهمات التي سبق أن أرساها مع عدد من الأفرقاء، أو التنصّل منها والتنكّر لها، بقدر ما يسعى إلى تحويل هذه التفاهمات من عامل "تكبيل" إلى "تيسير" بشكلٍ أو بآخر.

وانطلاقاً من هذه المقاربة، يمكن القول إنّ "التفاهمات" السابقة، وإن بقيت نظرياً موجودة، فإنّها ستفقد الكثير من "بريقها"، لأنّ ظروف المرحلة المقبلة تقتضي مقاربة مختلفة، وهنا بيت القصيد...