خلال الأسابيع الماضية رفع ​محمد شقير​ من استعداداته للإمساك ب​وزارة الاتصالات​ بصفته الوزير المختار من رئيس ​الحكومة​ المكلّف ​سعد الحريري​. اختياره لهذه الوظيفة، أثار موجة من التكهنات حول طبيعة مهمته. بين إعادة تنظيم القطاع بما يقلص الكلفة على الدولة، وبين الإجهاز على دور الدولة لمصلحة ​القطاع الخاص

لا ينكر رئيس ​غرفة التجارة والصناعة والزراعة​ في ​بيروت​ وجبل ​لبنان​ محمد شقير، أنه كان يلتقي الشركات المورّدة لتكنولوجيا الاتصالات في «يخت كلوب» على مدى الأشهر الماضية، وأنه ناقش معهم شؤون القطاع من مشاريع قائمة أو مستقبلية، إلا أنه يبرّر لقاءاته بالإشارة إلى أنهم «أصدقاء» أطلعوه على سير العمل في بعض نواحي ​قطاع الاتصالات​، سواء في شبكتي الخلوي أو في «​أوجيرو​»، بعدما تناهى إلى مسامعهم أن رئيس الحكومة سعد الحريري اختاره ليكون وزيراً للاتصالات في الحكومة العتيدة. ويرفض شقير أي إشارة إلى أن لقاءاته مع هؤلاء المورّدين كان مخططاً لها، بل يقول إنها تندرج في إطار علاقة بديهية.

كلام شقير يجعل هذه اللقاءات، التي تبيّن أن بعضها تكرّر، تبدو وكأنها صدفة ما. هذه «الصُدَف» كانت حصيلتها اجتماعات على غداء عمل مع أكثر من خمس عشرة مديراً تنفيذياً وممثلاً لشركات تقدّم خدمات تكنولوجيا الاتصالات في إطارها الواسع من أفكار تطويرية وتجهيزات وآليات عمل؟ اللافت أن ممثلي الشركات كانوا يصافحون بعضهم بعضاً بين لقاء وآخر ويتبادلون المعلومات عما دار في تلك اللقاءات والأسئلة التي طرحها عليهم شقير والعروضات التي تلقوها منه.

في الواقع، كان مستغرباً أن يكون نبيل يمّوت هو شريك شقير في غالبية تلك «الصُدف». يمّوت، هو الرجل الذي أقاله وزير الاتصالات في حكومة ​تصريف الأعمال​ ​جمال الجراح​ من موقعه كمستشار لوزير الاتصالات، ثم أعاده «مستشاراً أوّل» لوزير الاتصالات بعد اجتماعات عقدت في ​بيت الوسط​ بحضور الرئيس سعد الحريري ومدير مكتبه يومها ​نادر الحريري​. حضور يمّوت إلى جانب شقير في غالبية اللقاءات، ترك انطباعاً لدى الموردين أن توزير شقير محسوم، خصوصاً أن يمّوت يكون حاضراً أيضاً في كل لقاءات الحريري مع المعنيين بقطاع الاتصالات من مديري الوزارة وممثلي الشركات وقانونيين... الموردون تعاملوا مع شقير كوزير حالي ومستقبلي بانفتاح كامل واستمعوا إليه يتحدّث عن خصخصة قطاع الاتصالات كأنها حاصلة غداً، وأجابوه عن الكثير من الأسئلة التي طرحها عن «تطوير قطاع الاتصالات بالشراكة مع القطاع الخاص» والمشاريع الجاهزة لدى المورّدين أو تلك التي يمكن القيام بها مستقبلاً في حال ​الخصخصة​.

في كلامه لـ«​الأخبار​» يقرّ شقير بأنه سيستفيد من «صداقاته» مع مورّدي خدمات تكنولوجيا الاتصالات لرسم استراتيجية للقطاع سيبدأ بها فور تولّيه الوزارة. هذه ليست هي المشكلة في نظر خصومه، من الذين يتهمون شقير بأنه يسعى إلى ترتيبات تؤمن موارد جانبية لصندوق رئيس الحكومة، وأن الحديث هو عن نسبة جديدة من العمولات التي يتوجب على الموردين منحها مقابل تسهيل أعمالهم، حتى صار الجميع يتحدث عن «مستر 15%»... على أن هذه الأخبار التي بدأت تصل إلى الرئيس الحريري، تحظى منه بِرَد عفوي: غداً سترون أن مهمة شقير هي شطب العمولات التي كانت تدفع سابقاً حتى ولو تم تحصيلها باسم بيت الوسط!

ما ينقله زوار الحريري عنه، إنما يعكس المعركة الخفية القائمة حالياً حوله، على مستقبل عمل شركات خاصة مع الدولة. وهي معركة قاسية تضج البلاد بأن بطليها هما نادر الحريري المطرود من جنة الحريري، وعلاء الخواجة، شريك الشيخ سعد في ملكية «بنك ميد».

طبعاً، الكلام عن المعركة يشتمل على الاتهامات القائمة من دون تصريحات علنية. بين الفريق الذي يقول إن نادر الحريري يريد قطع الطريق على وصول شقير إلى وزارة الاتصالات، وإنه لا يزال يتواصل مع الشركات العاملة في القطاع، وبين الفريق الثاني الذي يقول إن الرئيس الحريري مهتم بإزالة كل آثار مدير مكتبه السابق، خصوصاً تلك التي يُقال إنها ارتبطت بعمولات وسمسرات وأعمال بزنس. على أن الأهم في كل ما يقال، هو اتهام شقير بأنه ينفذ استراتيجية جديده هدفها السيطرة على قطاع الاتصالات. لا سيما أن خصوم الحريري وخواجة يشيرون إلى ملكيتهما في شركات عاملة في قطاع الاتصالات والتكنولوجيا أبرزها مجموعة «هولكوم غروب» التي تعمل في مجال تكنولوجيا الاتصالات وتقديم خدمات ​الإنترنت​ والبث التلفزيوني، ويملك الحريري وخواجة حصّة فيها إلى جانب مساهمين آخرين.

شقير يعمل من دون كلل للإمساك بقطاع لا يعلم عنه شيئاً. الرجل أتى من خلفية صناعية في معمل والده («باتشي») لصناعة الشوكولا، قبل أن ينتخب رئيساً لغرفة التجارة والصناعة والزراعة في بيروت و​جبل لبنان​. وجدول لقاءاته شمل غالبية الشركات المعنية بالقطاع وأبرزها تلك المتعلّقة بقطاع الخلوي وبمشروع مدّ الألياف البصرية (فايبر أوبتيك). التقى مع حسن حجيج ممثلاً عن الشركة الكويتية (زين) التي تدير شبكة «تاتش» وناقش معه استراتيجية خصخصة شبكتي الخلوي، بالإضافة إلى تلزيم مشروع DPI لمراقبة الاتصالات والداتا بالتراضي لشركة محليّة، لكن«تاتش» رفضت السير بهذا التلزيم كون المتعهد هو الأغلى سعراً وليس الأفضل في هذا المجال، إلا أنه تسرّبت معطيات عن تراجعها عن الرفض من دون تقديم أي مبرّرات واضحة.

لقاءات مع الشركات العاملة في الاتصالات وحوار مع رجال أعمال بارزين لإطلاق صندوق استثماري في عمليات الخصخصة

وتشير المصادر إلى أن شقير التقى ممثلاً عن شركة «داتا كونسلت» أيضاً، واجتمع بالمدير العام لشركة Meatel جو زغزغي وتباحثا في ما يتعلق بالمرحلة الثانية من طيف البثّ أو ما يتصل بالمراقبة على الشبكات. كذلك التقى خالد حنبلي وتناقشا في مشروع تنفيذ غرفة مشتركة للتنصت على الاتصالات والداتا والتي ستقام على حساب وزارة الاتصالات. كذلك، اجتمع بممثلي الشركات الثلاث المعنية بتنفيذ المرحلة الثانية من مشروع ​الفايبر أوبتيك​؛ شركة «سيرتا» التي يملكها ​هشام عيتاني​ وتملك 60% من المشروع، والمدير التنفيذي لشركة «باور تك غروب» التي تملك 20% من المشروع، وشركة BMB - مديرها العام أمين السويدي - وتملك 10% من المشروع. بالإضافة إلى ​أيمن جمعة​، صهر رئيس ​المجلس النيابي​ ​نبيه بري​ والذي يملك إلى جانب عيتاني ونجيب أبو حمزة حصصاً في شركات عاملة في حقل الاتصالات وخدمات ​الهاتف​ الخلوي.

على أن الجهد الآخر، القائم بعيداً من الأضواء من قبل شقير، يتعلق بجدول أعمال يقوده مع عدد من ​رجال الأعمال​ اللبنانيين، و​النقاش​ فيه يتركز على فكرة إنشاء صندوق مالي كبير، يكون جاهزاً لمواجهة متطلبات أي مشاريع خصخصة كاملة أو شراكة بين القطاعين العام والخاص، لإدارة عدد من مرافق الدولة، في قطاعات ​الكهرباء​ والاتصالات و​المياه​ و​النقل العام​. وفكرته تقوم على توفير مبالغ مالية كافية لدمجها مع قروض من مؤسسات ومصارف لبنانية وأجنبية، تتيح التقدم لهذه المهمة.

الخصخصة

خلف لقاءات شقير يدور صراع في شأن خصخصة قطاع الاتصالات انطلاقاً من ضرورة إحياء القانون 431 الذي يتضمن أقساماً غير منفّذة بالكامل أو جزئياً: نقل قسم كبير من صلاحيات وزير الاتصالات إلى ​الهيئة المنظمة للاتصالات​ التي يعود لها أن تشرف على تنظيم القطاع ومراقبة تحريره ووضع الضوابط لعمله وآلياته، ثم تحديد دور وزير الاتصالات بوضع استراتيجية للقطاع على أن يكون صلة الوصل بين الهيئة و​مجلس الوزراء​؛ بيع التراخيص للقطاع الخاص؛ وتحويل أوجيرو إلى شركة اتصالات لبنان (ليبان تيليكوم) وخصخصتها.

داخل تيار الحريري، ترى مجموعة أنه ليس من الضروري القيام بالخصخصة عبر هذا القانون، بل هناك ضرورة لتعديله بحجّة أنه لم يعد يلائم الحقبة الزمنية الحالية وبات بالياً وقديماً. وثمة مجموعة أخرى تعتقد أن إحياء هذا القانون يشكّل ضرورة لتطوير القطاع ويتوجب تنفيذه ثم القيام بالتعديلات الملائمة عليه لمواكبة التطورات التكنولوجية. المشكلة تكمن في أن الذين يضعون أعينهم على القطاع هم زمرة قوى السلطة نفسها التي ستعيّن أعضاء الهيئة المنظمة للاتصالات، وهم الذين يعقدون صفقات مسبقة تحت الطاولة مع شركائهم في القطاع الخاص تمهيداً للسيطرة على مقدرات الاتصالات وتوزيعها بما يتناسب مع مصالحهم الخاصة والضيقة… والسيطرة على مقدرات قطاع الاتصالات ليس هدفاً حديثاً للحريرية. فهذا القطاع لا يوصف بأنه «منجم ذهب» من فراغ، بل هو يدرّ سنوياً أكثر من ملياري ​دولار​ يتم التعامل معها من خارج الأطر المحاسبية والقانونية المعتمدة في بقية الوزارات. موازنة وزارة الاتصالات هي موازنة ملحقة، وإنفاق إيرادات الوزارة لا يمرّ عبر ​وزارة المال​ وإن كانت العقود والتلزيمات تتطلب موافقة ​ديوان المحاسبة​، إلا أن الوزارة هي من يتحكّم بالمناقصات وبدفاتر شروطها والموافقة على التلزيم وسواها من آليات الإنفاق والتلزيم.

من باتشي إلى وزارة الاتصالات: انعطافة تلو الأخرى

كل زعيم سياسي في لبنان يحيط نفسه بمجموعة من رجال الأعمال. وجودهم إلى جانبه يوفّر له مكاسب كثيرة. التمويل أولاً. منبر اقتصادي للتهويل بوجه الخصوم. شراكات مجانية أو شبه مجانية في العقود والتلزيمات. توظيفات لزبائن ​السياسة​ (الناخبين)… «ميزات» الزعماء ورجال الأعمال إفساد النظام. في لبنان تبقى الآلية وتتغيّر الأسماء. كل فترة تتحلق حول الزعيم شلّة من «البزنسمان».

يتشدّقون بمدحه ويقدّمون الخدمات. لا ينتفع بهم وينتفعون معه وحسب، بل إن العلاقة بينهم هي أشبه بـ«وحدة الحال». هم طبقة واحدة، تضم سياسيين/ رجال أعمال ورجال أعمال ومال وإعلام وأمن.... الحريرية لا تشذّ عن هذه ​القاعدة​. اليوم ثمة عنوان واضح لها، هو محمد شقير. ابن رجل صناعي أسّس إمبراطورية «باتشي». عمل فيها شقير لفترة خمس سنوات، قبل أن ينتقل إلى الشأن العام. يومها خاض تجربة مريرة في السباق إلى رئاسة غرفة التجارة والصناعة والزراعة في بيروت وجبل لبنان. عرابه كان أحد رجال البزنس والسياسة من الحرس القديم للحريرية، النائب السابق ​سليم دياب​. رشّحه لرئاسة الغرفة في عام 2005. يقال إن والده رفض وضغط عليه للتراجع بحجّة انعدام الاستقرار الأمني والاغتيالات التي كانت عنوان تلك المرحلة. أفضى الأمر إلى انتخاب غازي قريطم رئيساً استمر حتى نهاية 2009. دياب رشّحه للمرة الثانية في 2010 قبل أن يأفل نجمه مع الحريرية. انعطافته الأولى جاءت حين التقطه نادر الحريري يوم كان مدير مكتب رئيس الحكومة سعد الحريري. تشارك الرجلان في مشاريع استثمارية في ​أوروبا​ ولبنان. من شركة إدارة مشاريع عقارية في ​وسط بيروت​، إلى تسويق باتشي في أوروبا وترميم مبنى غرفة التجارة… نشأته ​السعودية​ كرّست فيه انقلاب الرئيس الحريري على ابن عمّته نادر. هكذا جاءت الانعطافة الثانية مباشرة، فترك شقير نادر، وصار الأكثر قرباً من الرئيس سعد الحريري ومن علاء خواجة أيضاً. وتبين أن شقير يستحوذ على 10% من الشركة الجديدة التي تستثمر مجمع «البيال» والتي يملك خواجة أغلب أسهمها.

القانون 431: أداة للتنظيم أم للنهب؟

أصدرت ​لجنة الاتصالات​ النيابية توصية قضت بضرورة وضع القانون 431 موضع التنفيذ. وقد جاءت التوصية بعد نقاش في معلومات متداولة عن خصخصة «أوجيرو» التي سيتم تحويلها ودمجها مع أقسام في وزارة الاتصالات إلى شركة اتصالات لبنان. هذا القانون فيه الكثير من التفاصيل التقنية، إلا أنه يتضمن ثلاثة محاور رئيسية تتعلق بصلاحيات وزير الاتصالات والهيئة المنظمة للاتصالات وشركة اتصالات لبنان. بين هذه المحاور الثلاثة ثمة خصخصة للقطاع التي تشكّل الأداة الأساسية لنهب المزيد من المال العام وحشره في جيوب رجال السياسة والبزنس. إيرادات هذا القطاع التي يمكن تطويرها ومضاعفتها، تعدّ منجم الذهب الذي يسعى شركاء السياسة والبزنس للسيطرة عليه. تطبيق القانون وتطويره كلها مسائل متصلة بهذا الأمر حصراً.

القانون 431 يحصر صلاحيات وزير الاتصالات بوضع القواعد العامة لتنظيم خدمات الاتصالات في لبنان، والإشراف على التنفيذ، واقتراح مشاريع القوانين ومشاريع المراسيم المتعلقة بالقطاع، وتمثيل لبنان في الاجتماعات الرسمية، واقتراح تعيين رئيس وأعضاء الهيئة، والمصادقة على قرارات مجلس إدارة الهيئة المنظمة للاتصالات، واقتراح بدلات المراقبة وإدارة الترددات اللاسلكية.

أما بالنسبة للهيئة المنظمة للاتصالات فهي تتمتع باستقلال مالي وإداري لكنها تخضع لرقابة ديوان المحاسبة المؤخرة، ومهامها واسعة جداً انطلاقاً من إعداد المراسيم والأنظمة وإبداء الرأي بمشاريع القوانين ومشاريع المراسيم، ثم تشجيع المنافسة وتنظيم التلزيمات وإصدار التراخيص والإشراف على تنفيذها ومراقبتها وفرض التقيّد بها وتعليق العمل بها وسحبها، بالإضافة إلى وضع قواعد الترابط (ترابط الشركات على البنية التحتية) ومراجعة عقودها، وتحديد التعرفات والبدلات ومراقبتها، وتكون هيئة تحكيمية للبت بالنزاعات بين أصحاب التراخيص، وتطوير أنظمة الخدمات.

وينصّ القانون على تأسيس شركة اتصالات لبنان التي ستكون شركة مملوكة من الدولة «إلى حين تخصيص الشركة كلياً أو جزئياً» وتكون خاضعة لأحكام ​قانون التجارة​ باستثناء المادة 78 منه، ورأسمالها بالعملة الأجنبية. وتكون أسهم الشركة اسمية دائماً وقابلة للتداول في ​بورصة بيروت​ فوراً، ويعيّن مجلس إدارتها من الدولة، على أنه بعد تخصيصها يمكن للجمعية العمومية أن تختار أعضاء من دون التقيّد بشرط الجنسية، شرط أن تتمثّل الدولة دائماً بعدد من الأعضاء تبعاً لنسبة مساهمتها ويسميهم مجلس الوزراء. وتُمنح الشركة ترخيصاً لمدة 20 سنة لتوفير خدمات الاتصالات في الهاتف الأرضي والخلوي، فضلاً عن خدمات محلية ودولية، وخدمة الخط الخاص المحلي والدولي، ومكاتب الاتصالات والهواتف العمومية، وخدمة الاتصالات الطارئة، وخدمة الاستعلامات الترقيمية، ودليل الهاتف وأي خدمات أخرى تجد الهيئة بأنها تخدم المنفعة العامة، ويمكن أن يتضمن ترخيصها حقّاً حصرياً لأي من هذه الخدمات لمدّة لا تتجاوز 25 سنة على أن يمنح للهيئة حق إصدار ترخيص لأي جهة إذا تخلّفت الشركة عن توفير الخدمات المحصورة بها.