عندما أعلن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو عن قراره بالذهاب الى انتخابات مبكرة في التاسع من نيسان المقبل، فهو مهّد لقراره بسلسلة خطوات مدروسة تتلاءم والحملة الانتخابية التي يزمع خوضها.

صحيح انّ استطلاعات الرأي التي تجري بنحو شبه يومي تعطي نتنياهو الموقع الاول وبفارق بعيد من الثاني خلفه وكذلك تعطي حزب «الليكود» الكتلة النيابية الاكبر مع المحافظة على عدد المقاعد الحالي، الّا انّ الذهاب الى انتخابات فيها كثير من التحديات يستوجب من نتنياهو رسم مسار مدروس ومأمون.

ذلك انّ نتنياهو المحاصَر بتحقيقات الفساد وباحتمال إدانته سيصبح في حال فوزه صاحب اطول مدة لرئيس وزراء يحكم إسرائيل منذ وجودها ومتخطّياً رجل إسرائيل التاريخي ديفيد بن غوريون وواضعاً كل الأسماء الأُخرى خلفه.

فعندما اعلن ​أفيغدور ليبرمان​ استقالته من ​وزارة الدفاع​ على خلفية مواجهات غزة الاخيرة، خالف نتنياهو التوقعات ولم يدفع في اتجاه تحديد موعد لانتخابات مبكرة بسبب الغالبية الضيقة لحكومته اليمينية (صوت واحد) بل فضّل التريث وخاض مفاوضات صعبة مع نفتالي بينيت لإبقاء وزارة الدفاع معه هو.

وبعدها اطلق عملية «درع الشمال» والتي تضمّنت زعماً إسرائيلياً بتدمير أنفاق أقامها «حزب الله» قبل أن يُعلن الذهاب الى انتخابات مبكرة وفق معطيات عدة ابرزها:

1- استنفاد الوقت لقطع الطريق على الرئيس الاميركي ​دونالد ترامب​ ومبادرته المعروفة بـ«صفقة القرن» ذلك أنّ المؤشرات الاميركية كانت تتحدث عن قرار ​البيت الابيض​ بطرح المشروع ما بين كانون الثاني الحالي وشباط المقبل. ذلك انّ ترامب الذي يعيش وطأة ملف التخابر مع روسيا حيث اقترب المحقق مولر كثيراً من «خناق» الرئيس الاميركي يبحث عن انجاز تاريخي يؤدي الى صرف الأنظار عن تحقيق مولر والى اكتساب نقاط ثمينة في سياسته الخارجية والتي شكلت دوماً نقطة ضعفه تمهيداً لاستثمارها في حملته الانتخابية والتي تبدأ بعد اقل من سنة في مشوار التمديد له في البيت الابيض.

لكن حسابات ترامب تتعارض مع حسابات نتنياهو الذي كان التزم امام الائتلاف اليميني الحاكم بأنه لن يوافق ابداً على أيّ نوع من انواع ​الدولة الفلسطينية​ وبعدما بدأ الاستسلام العربي لخطة ترامب، لا بل «الهرولة» لمساعدته في تطبيقها، وجد نتنياهو انّ رهانه على إحباط الخطة من الطرف الفلسطيني اصبح صعباً، فاندفع وفق التوقيت الحالي «لتطيير» الحكومة بغية كسب بعض الوقت قبل خوض نزاع صعب مع واشنطن. وفي المقابل تكشف الاوساط الديبلوماسية الاميركية عن قرار البيت الأبيض تأجيل الإعلان عن «صفقة القرن» لكي لا تصبح الانتخابات الاسرائيلية بمثابة استفتاء خاسر عليها.

2- طرح الانتخابات في هذا التوقيت يساعد نتنياهو على تجميد الخطوات القضائية القائمة ضده على اساس أنّ أيَّ تدابير في هذا الاطار ستُعتبر تصعيداً إنتخابياً لا قضائياً ضده.

3- الاستفادة القصوى من عملية «درع الشمال» والتي اراد منها أولاً، التغطية على مواجهات غزة الفاشلة. وثانياً، اكتساب صورة القائد القوي خلال إشغاله حقيبة وزارة الدفاع، لكنّ هذه الاستفادة لم تكن بالمقدار الذي كان يرغب به.

لكنّ نتنياهو يدرك خصوصاً المخاطر التي قد يتعرض لها وتؤدّي الى ضرب صورته وإحباط حملته الانتخابية، فهو أراد أن يتوجّه الى الانتخابات هذه المرة بنحو مختلف وهذا ما دفعه الى التمسّك بوزارة الدفاع. ففيما كان في السابق يلعب دور المستضعف هو يتّجه هذه المرة للعب صورة القائد القوي. صحيح أنه برع دائماً في استجلاب عطف الناخب الاسرائيلي لكنّ الوضع مختلف اليوم، فهو متّهَم قضائياً ما سيرفع من احتمالاته تعريض صورته للخطر خلال المزج ما بين التعاطف والإدانة، لكن في الوقت نفسه فإنّ الدخول في حرب مباشرة مسألة صعبة جداً أولاً بسبب الظروف الإقليمية المعاكسة، وثانياً بسبب وضع ​الجيش الإسرائيلي​ حيث تقول تقارير معاهد الدراسات المهمة أنه يعاني من انخفاض الروح القتالية لدى جنوده وتراجع الرغبة بالإنضمام الى ألوية قتالية، إضافة الى انخفاض حادّ لدى مجنّدي الجيش في الانضمام الى الجيش الثابت (غير الاحتياط) الذين يمتهنون الجندية. والأهم الهرب في اتّجاه الوحدات التكنولوجية لا القتالية.

وفي الوقت نفسه فإنّ الشارع الإسرائيلي يتوق الى استعادة وهج القوة وهو ما يفسّر جنوح الناخب الإسرائيلي في اتّجاه اليمين، خصوصاً في ظلّ الشعور بتآكل قدرة الردع لدى إسرائيل، ما يعني أنّ أداء الجيش سيكون في صلب المعركة الانتخابية خصوصاً مع تبديل رئيس الاركان منتصف هذا الشهر.

لذلك يبدو نتنياهو محكوماً بحدَّين: الحدّ الأول السماح لإسرائيل بضربات خاطفة، خصوصاً في ​سوريا​، بحيث يكون صداها قوياً في الداخل الإسرائيلي.

والحدّ الثاني من خلال محاذرة التورط في ضربات موجعة أو تؤدّي الى خسائر كبيرة تدفع «حزب الله» الى الرد تماماً كما حصل مع الغارة الإسرائيلية الاخيرة قرب دمشق. كما انّ اعلان نتنياهو الاقتراب من اعلان انتهاء عملية «درع الشمال» يأتي في هذا السياق ولمنع أيّ خطأ يؤدي للاحتكاك بـ«حزب الله»، رغم أنه كان اعلن في البداية عن عملية ستستمر ثلاثة او اربعة أشهر. فالاحتكاك قد يتسبّب بمواجهة تؤدي الى هزيمة إسرائيلية كما حصل مع شمعون بيريز ايام «عناقيد الغضب»، ما يعني انّ التوتير العسكري على الحدود ليس مفيداً لنتنياهو مع بدء معركته الانتخابية، فهو يريد عمليات امنية سريعة وتُحدث صوتاً قوياً.

لكن في سوريا واجه نتنياهو مشكلة مع اطلاق صواريخ ارض ـ جو سورية، ما دفع صحيفة «يديعوت احرونوت» الاسرائيلية الى الاعتبار انّ قوة وقدرة إسرائيل على شنّ غارات في سوريا شارفت على الانتهاء، كون ذلك يحمل خطر سقوط طائرة والانجرار الى حرب.

وجاء البيان الروسي حول انتهاك إسرائيل السيادةَ اللبنانية وتشكيلها خطراً على سلامة الطيران المدني بمثابة صفعة إضافية لنتنياهو الذي قرّر، على ما يبدو، انجاز صفقة مع ادارة ترامب وليس بعيداً أن يطلب من وزير ​الخارجية الاميركية​ ترتيب تفاهم اميركي مع روسيا في سوريا يسمح باستعراض جوّي إسرائيلي خلال الأشهر المقبلة. ومن هنا يمكن ايضاً تفسير استجابة ترامب لطلب نتنياهو تأخير الانسحاب الاميركي من سوريا أربعة اشهر والتي هي في المناسبة اشهر ​الحملات الانتخابية​ الإسرائيلية.

ومعه فإنّ نتنياهو الذي يريد ورقة «حزب الله» بقوة في الانتخابات الإسرائيلية سيعمل وفق تفاهم مع واشنطن على عمليات أمنية في سوريا، وربما في لبنان، عمليات فيها برق ورعد ولكنها من دون عواصف، على أن يتكفّل التنسيق الاميركي ـ الروسي ترتيب الإخراج.

لكن لـ«حزب الله» رأيه ولإيران رأيها ايضاً. فقدرتهما كبيرة وتصل الى قلب غزة وفي السياسة هنالك أثمان ومشاريع مفتوحة. طبعاً هذا الكلام لبعض البسطاء والسذّج كي يحرقوا اصابعهم كما في كل مرة، خصوصاً وأنّ من بين هؤلاء وافدون جدد الى خشبة المسرح ويسعون للعب دور البطولة.