لا تزال ​اميركا​ مشغولة بمعضلة دستورية-اخلاقية تتعلق بقرار الرئيس الاميركي ​دونالد ترامب​ بناء جدار فاصل على الحدود مع المكسيك. ولكن، منذ ايام قليلة فقط، تبيّن ان المسألة لا تتعلق بالاخلاق ولا بالدستور، بل بالاموال. ففي حين يرغب ترامب في اضافة كلفة بناء الجدار الى الموازنة، تصدى الديمقراطيون لهذه الفكرة واقترحوا تلبية جزئيّة ووافقوا على زيادة قدرها 1.5 مليار دولار بدلاً من 5 مليارات كان طالب بها ترامب.

هذا الخلاف بين الطرفين اتى في وقت حساس، فمن جهة يستعد ترامب لاظهار مدى شعبيته الداخلية بعد الضرر الذي لحق بها عالمياً (اوروبا والعالم العربي)، ومن جهة ثانية يتسلم الديمقراطيون اليوم رئاسة ​مجلس النواب​ بعد فوزهم بالاغلبيّة في الانتخابات النصفية التي جرت. هذا "الكباش" الذي بدأ لم يعد يحمل طابعاً اخلاقياً يتعلق بالعنصريّة والقدرة على تأمين الحاجات الاساسيّة للاجئين، بل يبدو انه بات يتعلق فقط بحجم الاموال التي يجب دفعها، وهو أمر يأخذه ترامب على محمل الجدّ كونه سلاحه الوحيد الفاعل والذي يتمسك به لمواجهة الجميع داخلياً وخارجياً، ويعتبره "اختصاصه" في ظلّ "نواقص" يعاني منها في مواضيع اخرى عديدة.

واللافت ان المسألة اصبحت تطال الاميركيين انفسهم، كونها أدّت الى اغلاق جزئي للحكومة الاميركيّة أيّ تأثّر وزارات عديدة بتقديم الخدمات اللازمة للمواطنين. هذا الامر يصبّ في مصلحة الديمقراطيين حتماً، ولعلهم اختاروا النقطة الاقوى لدى ترامب لتحويلها الى نقطة ضعف، فمن المعروف ان النظام الرئاسي يضع المسؤوليّة في يد الرئيس، وبالتالي فإن النقص في الخدمات لا بدّ وان يؤثر سلباً على الرئيس حتى ولو حاول القاء اللوم على الديمقراطيين وتحميلهم مسؤوليّة ما يحصل. فالاميركيون سيحتارون حتماً في مقاربتهم للمسألة، لان ترامب وعدهم بتحسين الاوضاع وليس تردّيها، فيما نجح الديمقراطيّون في الدخول الى عقر داره من باب "الأموال" تحديداً، وعليه فإضافة الى النقمة التي حصدها من المكسيكيين والاجانب الذين يعيشون في ​الولايات المتحدة​ بسبب قراره ونظرته الى المهاجرين بشكل عام، يجد الرئيس الاميركي نفسه امام معضلة اخرى وهي عدم توفير خدمات مهمّة للمواطنين. ولا شك أن تراكم هذه المشاكل لن ينفع ترامب ولا ​الحزب الجمهوري​ في الانتخابات الرئاسيّة المقبلة، ففي نصف ولايته خسر الرئيس وحزبه رئاسة مجلس النواب والغالبيّة فيه، ولو انه حصد غالبيّة مجلس الشيوخ، الا أنّ "الكباش" أخذ منحى آخر وبات الديمقراطيون قوة اساسية لا يمكن الاستهانة بها وممراً الزامياً لتمرير قوانين وتشريعات يحتاج اليها ترامب اكثر من غيره.

ولعل ما يعزّز شعور الاميركيين بـ"الخداع" من قبل رئيسهم، هو انه كان وعد بأنّ كلفة الجدار ستكون على عاتق المكسيك، ولا يزال يصرّ على ذلك من خلال قوله أنّ الاتفاق التجاري الجديد بين البلدين كفيل بتسديد المبلغ المطلوب، ولكن في واقع الحال، ان الميزانية الاميركيّة تتطلب ادراج مبلغ 5 مليارات دولار لتمرير انشاء الجدار، ويجب اقتطاع مبالغ من وزارات وقطاعات حيويّة لتأمين الأموال، وهو ممسك الديمقراطيين على ترامب والشعار الذي رفعوه لجعلهم اقرب الى المواطنين.

انها اول معضلة حقيقية يواجهها ترامب بعد الانتخابات النصفيّة وتغيير التوازنات في مجلس النواب، ولكنها الاكثر حرجاً لانها تهدد بخرق نقطة القوّة الوحيدة التي يتحصّن خلفها ترامب وهي "الاموال"، فلمن ستكون الغلبة وكيف سيدافع الرئيس الاميركي عن "حصنه المنيع" في وجه الهجمة الديمقراطية التي اتخذت من الاميركيين انفسهم درعاً لن يكون من السهل خرقه او تخطيه. واذا كان هناك من تسوية، فهل ستكون على حساب الجمهوريين ام الديمقراطيين لان ثمنها سيكون غالياً بعد اقل من سنتين.