يتطلع المسؤولون ال​لبنان​يون دائما الى تجارب دول ​أوروبا​ في القطاعات والمجالات كافة ليبنوا عليها ويسوّقوا لمشروع سياسي او اقتصاديّ ما، انطلاقا من اقتناعهم بأن ما تمّ اعتماده هناك يصح اعتماده هنا وأن ما أثبت فعاليته وجدواه في العواصم الأوروبيّة، سيكون فعالا ومجدٍ في لبنان. ويتخذ بعض المسؤولين المحليين حاليا التجربة ​الدنمارك​ية في ملفّي النازحين ومحرقة النفايات ليبنوا عليها للدفع باتجاه اعتماد سياسات مماثلة للسياسات الدنماركية في هذين المجالين، رغم علمهم بأنّ الأرضية والظروف في الدنمارك تختلف كليا عن الأرضية والظروف اللبنانية.

في العاصمة كوبنهاغن الكثير من الهدوء. فالمدينة التي كانت تحيي في الاسبوعين الماضيين عيدي الميلاد ورأس السنة، بقيت متمّسكة بسكونها الذي كانت المفرقعات الناريّة تخرقه بين الحين والآخر. في الشوارع الرئيسيّة كما الفرعيّة القليل من المتسّولين سواء الدنماركيين أو المهاجرين، بخلاف شوارع معظم العواصم الاوروبية الكبيرة التي غزاها الفقراء، طالبي الأموال والطعام. ولعل السياسة الدنماركيّة التي اعتمدت مؤخرا في التعامل مع ملف اللاجئين واتسمت بالكثير من الصرامة، انعكست سريعا على أرض الواقع بحيث كان لافتا تراجع العمالة الأجنبيّة وبخاصّة في المحال التجاريّة على حساب العمالة المحليّة. اذ أعلنت حكومة يمين الوسط والحزب الشعبي الدنماركي اليميني في تشرين الثاني الماضي عن اتفاق حول نقل ما يقارب 100 لاجئ غير شرعي إلى جزيرة في خليج بحر البلطيق، على بعد حوالي ثلاثة كيلومترات من أقرب شاطئ حيثما يقلّ استخدام العبّارات. ويندرج هذا القرار باطار سياسة دفع اللاجئين والمهاجرين الهاربين للعودة الى بلادهم.

الا انّ المقاربة الدنماركيّة والاوروبيّة ككل لملف اللاجئين وبالتحديد السوريين منهم تُظهر تناقضا كبيرا بين ما تدعو اليه أوروبا وبين ما تطبقه. ففيما تفرض على لبنان تعزيز أوضاع النازحين وتدفع أبعد من ذلك باتجاه دمجهم في المجتمع، تمارس عكس ذلك في دولها من خلال اعتماد سياسات تدفعهم للرحيل.

وليس ملفّ ​اللاجئين السوريين​ وحده الذي يتعاطى معه المسؤولون الاوروبيون والدنماركيون تحديدا بـ"ازدواجية في المعايير"، اذ يشكّل ملف النفايات بابا آخر لهذه الازدواجية، بحيث يسوّق الدنماركيون منذ فترة للمحارق في لبنان انطلاقا من تجربتهم الناجحة في كوبنهاغن بتحويل النفايات الى طاقة عبر أحد أكبر المصانع في أوروبا الذي تم انشاؤه في العام 1970، وجرى اعادة تطويره وتحديثه في العام 2013. ولا يأخذ الدنماركيون هنا ايضا بعين الاعتبار ان الارضيّة في لبنان تختلف عن تلك التي في بلدهم، حيث تتصاعد أعمدة الدخان البيضاء من المصنع الضخم الذي أقيم في وسط العاصمة وعلى مساحة كبيرة ما أدّى ورغم حداثته وبنائه العصري والتزامه بصرامة بالشروط الصحية والبيئيّة، الى تشويه المشهد الكلي للمدينة الصديقة للبيئة، بحيث يبدو وكأنه كيان لا ينتمي اليها وأُسقط فيها من العدم. ولعل أكثر ما يستفز الزائر هو أن تكون خلفيّة تمثال "حورية البحر الصغيرة" المتواجد في المرفأ، هي "محرقة" للنفايات.

ولا شك ان المقاربة الخاطئة لهذا الملف لبنانيا، لا تعتمد وكما الحال في الدنمارك، على منطق "التشويه البصري"، انما تطال وبشكل اساسي الهواجس من أن تفاقم أيّ محرقة يتم انشاؤها في ​بيروت​ من مستوى ​التلوث البيئي​، ما ينعكس تلقائيا صحيّا مع تفاقم أعداد مرضى السرطان بشكل غير مسبوق. وما يعزز هواجس الخبراء البيئيين في هذا المجال هو التجارب اللبنانيّة المتراكمة في المجالات كافة، والتي تؤكد أن كل الوعود بالالتزام بالشروط البيئيّة والصحيّة تذهب أدراج الريح، ما يعني أن أيّ "محرقة" في لبنان ستكون بمثابة "قنبلة موقوتة" قابلة للانفجار في اي لحظة.

واذا كان من المتعارف عليه أن نستفيد من التجارب الدنماركيّة، قد يكون من المفيد للدنماركيين أنفسهم أن يستفيدوا ولو لمرة من التجربة اللبنانيّة. فسكون وهدوء كوبنهاغن تحوّل ​ليلة رأس السنة​ الى احتفالات مجنونة في الشوارع وبالتحديد في الساحة الرئيسة للمدينة، حيث استخدمت المفرقعات الناريّة بعشوائية عرّضت حياة المئات للخطر بغياب شبه كلي للقوى الأمنية عن المشهد... لكن في بيروت انقلبت الآية، فالجنون الذي يطبع يوميّات العاصمة والبلد ككل، تظهّر في تلك الليلة حضارة ورقي بالاحتفالات وبالاجراءات الأمنيّة ما أعاد العاصمة اللبنانيّة الى صدارة العواصم للاحتفال والفرح.