تراوح الأزمة الحكومية مكانها بعد زهاء ثمانية أشهر على التكليف، من دون أن يلوح في الأفق ما "يبشّر" بأنّ ولادتها باتت وشيكة، في ظلّ تقاذف كرة المسؤولية عن التعطيل بين مختلف الفرقاء، في الداخل والخارج، و"اعتكاف" عدد من المعنيّين، وفي مقدّمهم رئيس الحكومة المكلّف ​سعد الحريري​ نفسه، بانتظار "الفرج".

إزاء ذلك، ولأنّ كلّ يوم تأخير بات يكلّف الدولة وخزينتها الكثير، فيما كلّ الطروحات التي تُقدَّم تصطدم بـ"فيتو" من هنا أو هناك، يصبح من الضروري ربما إعادة النظر بمفهوم الحكومة ككلّ، وبالتالي البحث عن "مَخارِج"، قد يكون في صدارتها اقتراح الحكومة المصغّرة، التي يدعو إليها ​البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي​ بين الفينة والأخرى.

فهل حان الوقت جدياً للبحث في هذا المقترح؟ وهل يمكن للحكومة المصغّرة أن تشكّل الحلّ للأزمة الحكوميّة المستعصية؟ وقبل هذا وذاك، هل هي قابلة فعلياً للتطبيق في ظلّ الواقع الحالي؟!.

الأبواب "مقفلة"

على رغم رصد حراكٍ نشط على خط تأليف الحكومة خلال الأسبوع الماضي، شكّل وزير الخارجية في حكومة تصريف الأعمال ​جبران باسيل​ محوره الأساسيّ، بتكليفٍ من رئيس الجمهورية ​ميشال عون​، فإنّ أيّ مؤشرات جدية لقرب "الفرج" لم تظهر عملياً على أرض الواقع، حتى على وقع "التهديدات" بتأجيل ​القمة العربية​ التنمويّة والاقتصاديّة التي ينتظرها ​لبنان​ خلال الشهر الجاري، أو نقلها من لبنان إذا لم تتشكّل الحكومة قبل موعدها.

وإذا كانت العقدة التي تحول دون التشكيل راهناً ترتبط بتمثيل "​اللقاء التشاوري​" أو "سُنّة 8 آذار"، وبشكلٍ أكثر دقّة بتموضع ممثلّهم داخل مجلس الوزراء، وبالتالي احتسابهم ضمن هذا الفريق أو ذاك، وصولاً إلى طريقة تصويتهم، فإنّ عقداً بالجملة تتفرّع عن هذه العقدة، لا تزال تحظى بنصيبٍ وافرٍ من النقاشات السياسية، بينها الثلث الضامن أو المعطل في الحكومة، وكيفية توزيع الحقائب، ربطاً باستحقاقات مؤتمر "سيدر" وغيره.

من هنا، يعتبر كثيرون أنّ الأبواب تبدو "مقفلة" حتى إشعارٍ آخر لجهة ​تشكيل الحكومة​، بانتظار "المعجزة" التي كانت "أمنية" الكثيرين مع مطلع العام الجديد. فعلى صعيد عقدة "اللقاء التشاوري"، التي عادت لتشكّل "أمّ العقد" بامتياز، توحي كلّ المعلومات المتوافرة بأنّ الأمور عادت إلى ما دون الصفر، وتحديداً إلى ما قبل مبادرة رئيس الجمهورية الأخيرة، مع ما سُرّب عن رفض "اللقاء" الطروحات التي قدّمها باسيل حول تمثيله، و"الفيتو" الذي وضعه في وجه إعادة طرح اسم جواد عدرا من جديد.

أكثر من ذلك، تشير المعلومات إلى أنّ "اللقاء" عاد للتصلّب في مواقفه، من خلال الإصرار على ضرورة اختيار وزير من أعضائه الستّة أو الأسماء الثلاثة التي تدور في فلكه حصراً، والتي سبق له أن قدّمها في ضوء وساطة المدير العام للأمن العام ​اللواء عباس إبراهيم​، والتي لم يُكتَب لها النجاح، أو جُمّدت بالحدّ الأدنى، بل وتأكيده أن الوزير الذي يطالب به يجب أن يمثله "حصراً"، وأن يُعطى حقيبة. وبعيداً عن السجال الذي فُتِح مجدّداً، حول خلفيّات هذا التصلّب، ومن يربطه بعقدة خارجية لم تعد مستترة، فإنّ الأكيد أنّ الأمور ليست "ميسَّرة"، ولو حاول البعض تصويرها كذلك لغايةٍ في نفس يعقوب.

حلّ "مثالي" ولكن...

انطلاقاً ممّا سبق، يرى كثيرون أنّ الوقت قد حان للبحث جدياً في إعادة النظر بمفهوم "حكومة الوحدة الوطنية"، والنقاش بأفكار أخرى على غرار الحكومة المصغّرة أو الحياديّة، التي يطرحها البعض، وبينهم البطريرك الماروني بشارة الراعي، والذي كرّر المطالبة بها في قداس الأحد الأخير.

من حيث المبدأ، يمكن القول إنّ مثل هذا الحلّ هو "مثالي"، أولاً لأنه وبمجرد طرحه تنتفي عقدة "اللقاء التشاوري" المرتبطة بمفهوم حكومة الوحدة، التي يريدها البعض بمثابة "برلمان مصغّر"، يتمثّل فيه جميع الفرقاء الممثلين في مجلس النواب من دون استثناء، علماً أنّ قانون الانتخاب الأخير وسّع مروحة التمثيل النيابي إلى حدّها الأقصى، بما لا يفترض أن ينسجم مع التمثيل الحكومي وحدوده. ولا تنتفي هذه العقدة فحسب في ظلّ الحكومة المصغّرة، بل تنتفي معها معظم العقد التي سبق أن عطّلت التأليف وأخّرته لأشهر، من تلك المرتبطة بتمثيل "القوات اللبنانية"، إلى ما سُمّيت بـ"العقدة الدرزية"، التي تشبه في الشكل والمضمون عقدة "اللقاء التشاوري" إلى حد بعيد.

إلا أنّ الأهمّ من هذا وذاك يبقى أنّ مثل هذا الطرح قد يكون الأكثر "ديمقراطية"، كونه يعيد بعض الهيبة إلى مفهوم "المساءلة والمحاسبة" الذي ضربته حكومات "الوفاق" المتعاقبة في الصميم على مدى الأعوام الماضية، والتي دفنت أيّ فرصة لقيام "معارضة" فاعلة ومنتجة ومثمرة في مهدها، بعيداً عن نظرية "المعارضة من الداخل" التي شلّت الحكومة والمعارضة في آنٍ واحد. ولعلّ من ميزات هذا الطرح أيضاً أنّ من شأنه إعادة الاعتبار لمفهومٍ آخر في السلطة، وهو "الرجل المناسب في المكان المناسب"، خصوصاً إذا ما شُكّلت الحكومة من أصحاب الكفاءة والاختصاص، بعيداً عن منطق المحاصصة الذي يضع على رأس الوزارات من لا يصلح لها، خصوصاً أنّ معظم الأحزاب تختار وزراءها قبل معرفة الحقائب التي ستُسنَد إليها.

ومع أنّ هذا الحلّ يبدو "مثالياً" أيضاً ليثبت "العهد" قوته، عبر التغيير في النهج أولاً، بل يعتبر الكثيرون أنّ الحكومة المصغّرة هي "شرط" لتطبيق الإصلاحات التي لطالما وعد بها رئيس الجمهورية، والتي تبدو مهدَّدة جدياً في ظلّ حكومة موسّعة يسعى كل فريق فيها للتشويش على الآخر، إلا أنّ عقباتٍ بالجملة تجعل مثل هذه الحكومة غير قابلة للتطبيق في لبنان، لعلّ أولها رفض "قوى السلطة" لها بالجملة، كونها تضرب "مصالحها" في المقام الأول، وهي "المصالح" التي تجمع أشدّ المتخاصمين، فضلاً عن كونها تضرب منطق "المحاصصة" الذي تتمسك به وتصرّ على تكريسه مهما كان الثمن...

فرص معدومة

نظرياً، يمكن القول إنّ "الحكومة المصغّرة" هي الحلّ الأفضل، ليس فقط ربطاً بالعجز عن تأليف الحكومة بعد ثمانية أشهر من التكليف فحسب، بل ربطاً بقدرة الحكومة على الإنتاج والعمل الفعليّ، وقدرة المعارضة على التصدّي لها في المقابل.

لكن، فعلياً، يمكن القول إنّ فرص هذه الحكومة معدومة، كونها تصطدم بـ"تكتّلٍ" من المتضرّرين، الذين لن يقبلوا التخلي عن السلطة ومغانمها ببساطة، ولو غلّفوا ذلك بتكريس مقولة أنّ لبنان لا يُحكَم إلا بالتوافق، انسجاماً مع بدعة "الديمقراطيّة التوافقيّة".

ولعلّ قول رئيس الحكومة باستمرار إنّه جاء ليشكّل حكومة وحدة وطنية يكفي لتأكيد هذا المنحى، منحى يبشّر سلفاً بأنّ الحكومة، شُكّلت اليوم أم بعد أشهر، لن تقدّم أو تؤخّر، وأنّها لن تغيّر شيئاً من الواقع الذي لا يتردّد المسؤولون أنفسهم في وصفه بالكارثيّ!.