لا أحد يحسد رئيس ​الحكومة​ المكلف ​سعد الحريري​ على موقفه، بعد نحو ثمانية أشهر من تكليفه ​تشكيل الحكومة​، حكومة اعتقد كثيرون للوهلة الأولى أنّها ستؤلَّف سريعاً، فإذا بها تنافس على "الأرقام القياسية" التي سبق أن سُجّلت في مضمار التأخير والتعطيل.

لا أحد يحسد الحريري على موقفه، بالنظر إلى الضغوطات التي يتعرّض لها من الداخل والخارج، والقيود التي تكبّله من الحلفاء والخصوم على حدّ سواء، فضلاً عن محاولات الاستفزاز التي تلاحقه من كلّ حدبٍ وصوبٍ، وإن أقرِنت بمقولة "التمسّك به" تحت أيّ ظرف.

ولكن، أبعد من الحسد وغيره، هل يريد الحريري فعلاً تأليف الحكومة؟ وإذا كان كذلك، كيف يترجم هذه الإرادة عملياً؟ وهل يخدم اعتكافه المُعلَن وغير المُعلن تارةً، وتطبيعه مع "الفراغ" الحكوميّ أطواراً، هذا المسار؟ وألم يحن الوقت ليضرب بيدٍ من حديد، ويقول "أنا من أشكّل، ونقطة على السطر"؟!.

ضغوط بالجملة

بالنسبة إلى المحيطين برئيس الحكومة المكلف، فإنّ الأخير أدّى قسطه للعلا منذ أشهر، وإنّ الحكومة بالنسبة إليه جاهزة بكامل تركيبتها، لولا بعض العقد "المفتعلة" التي رماها عدد من الفرقاء في وجهه في اللحظات الأخيرة، لعلّ أبرزها ما سُمّيت بـ"العقدة السنية"، بعد "اختراع" كتلة لم تكن موجودة في الأساس، والمطالبة بتمثيلها في البرلمان.

يعتبر الحريري أنّ افتعال هذه "العقدة"، التي لم يعد خافياً على أحد "استقواء" المعنيّين بها بشكل واضح بـ"حزب الله"، الشريك الذي لا قدرة للحريري على التخلي عنه في الحكومة، على رغم الخلاف الشاسع معه، كان مصوّباً عليه بشكلٍ كامل، في محاولةٍ من قبل البعض لإظهاره ضعيفاً وعاجزاً ليس فقط عن تأليف حكومته، بل حتى داخل طائفته، مع السعي إلى "تكبير" حجم بعض الأطراف الأخرى، وإن فازت في الانتخابات الأخيرة.

وإلى جانب هذه "العقدة"، يقول البعض إنّ الحريري ومنذ تكليفه تعرّض للعديد من الضغوط والقيود، من بينها التلويح بين الفينة والأخرىباجتهادات وفتاوى لدفعه إلى "الاعتذار"، فضلاً عن "تكبيله" ببعض الطروحات التي لا يمكن أن يقبل بها، على حدّ ما يؤكد، على غرار توسيع الحكومة إلى 32 وزيراً وتكريس عرف جديد يقضي بتوزير علوي، فضلاً عن الضغط الذي تعرّض له في أكثر من محطة لجهة العلاقة مع ​سوريا​.

ولا تقف القيود والضغوط عند كلّ ما سبق، إذ إنّ خصوم رئيس الحكومة يتحدثون عن "قيود خارجية" تكبّل الرجل أيضاً، ربطاً بمرجعيته الإقليمية، أي ​المملكة العربية السعودية​، ولو كان الرجل يصرّ على "تحييدها" عن كلّ ما يحصل. ويستندون في ذلك إلى ما يقولون إنّها محطات عدّة طبعت عمليّة التكليف، التي لم تسهَّل إلا في مرحلة ما بعد مقتل الصحافي السعودي ​جمال خاشقجي​ وما خلّفته في داخل المملكة، التي حاولت التعويض من خلال استعادة وهج علاقتها بالحريري، قبل أن تعود الظروف الإقليميّة لتعرقل من جديد.

اعتكاف وتطبيع...

لا شكّ أنّ الحريري لا يتحمّل، على الأقلّ بمفرده، المسؤولية الكاملة عن التعطيل في تشكيل الحكومة، فهو، ولو كان رئيسها،يبقى في النهاية "لاعباً" على خطها إلى جانب عدد من اللاعبين الآخرين، خصوصاً في ظلّ ما سبق أن شكا منه رئيس الجمهورية ​ميشال عون​ لجهة "فرض أعراف جديدة" في عملية التأليف.

ولكن، أبعد من النوايا الحسنة والطيّبة وسواها، ماذا فعل الحريري عملياً لمواجهة هذا الواقع الذي حاول البعض فرضه عليه؟ كيف واجه محاولات تكبيله وإضعافه، إذا صحّت هذه الفرضية؟ وأيّ استراتيجيّة اعتمد لتأليف الحكومة، إن وُجِدت؟.

صحيح أنه لا يمكن تحميل الحريري أكثر ممّا يحتمل، لكنّ الصحيح أنّ استراتيجية الرجل لم تكن قائمة على "الهجوم" أو "المبادرة" إن جاز التعبير، بقدر ما كانت قائمة على "الدفاع"، وبالتالي تلقّف المبادرات لا أكثر، ولعلّ الأسوأ من ذلك، أنّها قامت على "الاعتكاف"، ربما لأنّ الحريري يدرك أنّ المعرقلين والمعطّلين هم من أكثر المتمسّكين به.

هكذا، اختار الحريري أن يواجه مثلاً عقدة "اللقاء التشاوري" بالاعتكاف المُعلَن، رافضاً أيّ لقاء مباشر مع المعنيّين بالأزمة التي تجاهلها بكلّ بساطة وكأنها غير موجودة، منتظراً أن يأتيه "الفرج" من مكان آخر، ولو شكّل ذلك ضرباً فاقعاً لصلاحياته كرئيس للحكومة، ما دفع الكثيرين إلى القول بأنّ الحريري منح صلاحياته إلى وزير الخارجية ​جبران باسيل​، الذي بات هو من يؤلف، ومن يطرح الأفكار، فيما الحريري يقبلها أو يرفضها فقط لا غير.

وفي مقابل الاعتكاف، ارتكب الحريري بنظر البعض خطأ آخر، تمثّل في "التطبيع" مع الفراغ الحكوميّ الحاصل، ما أوحى للبعض وكأنّه "مرتاح" على وضعه وليس مستعجلاً. هكذا، وافق على المشاركة في جلسات "تشريع الضرورة" التي يقول كثيرون إنّها تخطّت الضرورة وموجباتها، ويبدو أنّه اليوم بصدد الموافقة على تفعيل حكومة تصريف الأعمال، بعد إعلان كتلته النيابية صراحة أنّ هذا الاقتراح "محلّ متابعة"، علماً أنّ رئيس مجلس النواب ​نبيه بري​ سبق أن أكد "عدم ممانعة" الحريري لذلك، في سبيل إقرار الموازنة.

وإذا كانت مواقف الحريري في هذا الصدد تُسجَّل له لا عليه برأي كثيرين، باعتبار أنّ الدافع إليها يصبّ في الصالح العام، سواء لجهة الموازنة أو مقتضيات مؤتمر "سيدر"، فإنّها تشكّل في الوقت نفسه "تطبيعاً" مع الوضع القائم، وإيحاء بأنّ لا شيء "ضاغطاً"، في وقت كان يمكنه على العكس من ذلك، استثمار هذه الظروف للضغط لتأليف الحكومة، خصوصاً أنّ من يتّهمهم بالتعطيل هم على رأس المؤيدين لهذه الخطوات، بشكلٍ أو بآخر.

الوقت حان...

قد يكون من الظلم بمكان تحميل الحريري أكثر ممّا يحمل، أو حتى القول إنّه لا يريد تأليف الحكومة، بناءً على كلّ ما سبق. وقد يكون من العدل توسيع السؤال عن "إرادة تأليف الحكومة" ليشمل الأفرقاء الآخرين، الذين يتحمّل كلٌ منهم جزءاً وافراً من المسؤولية بطبيعة الحال.

ولكن، بين هذا وذاك، يبقى الحريري رئيس الحكومة المكلّف، ومسؤوليته تقتضي منه المبادرة فوراً، لا الاعتكاف والتطبيع وانتظار "الفرج". وبالتالي، قد يكون الوقت حان ليقول الحريري كلمته في هذا المضمار، أو بالحدّ الأدنى الضغط الذي لا شكّ أنّه قادر عليه، إلا إذا كان فعلاً غير مستعجل كما يقول الكثير من خصومه...